تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٧٠
الأنبياء، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع.
و: يكون، يجوز أن تكون تامة وفاعلها غلام، أي: أني يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تكون ناقصة، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الاسم، لأنه قيل: دخول كان مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، إذ تقدم أداة الاستفهام مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، والجملتان بعد كل منهما حال، والعامل فيهما: يكون، إن كانت تامة، أو العامل في: لي، إن كانت ناقصة.
وقيل: * (وامرأتى عاقر) * حال من المفعول في: بلغني، والعامل بلغني، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا، فلم يكن وصفا لازما، وكانت الثانية اسمية والخبر: عاقر، لأنه كونها عاقرا أمر لازم لها لم يكن وصفا طارئا عليها، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية، ومعنى: بلغني الكبر، أثر في: وحقيقة البلوغ في الأجرام، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه.
وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام، كأن الكبر طالب له، لأن الحوادث طارئة على الإنسان، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب، وقيل: هو من المقلوب، كما جاء: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * وكما قال:
* مثل القنافذ هداجون قد بلغت * نجران أو بلغت سوءاتهم هجر * وقال الراغب: إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر. إنتهى. وهنا قدم حال نفسه وأخر حال امرأته، وفي مريم عكس، فقال الماتريدي: لا تراعي الألفاظ في الحكاية إنما تراعي المعاني المدرجة في الألفاظ.
وقال غيره: صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا، لأنه قدم: أنه وهن العظم منه، * (واشتعل الرأس شيبا) *. وقال: * (وإني خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقرا) *، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتيا روؤس الآي، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى، والعطف هنا بالواو، فليس التقديم والتأخير مشعرا بتقدم زمان، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام.
* (قال كذالك الله يفعل ما يشاء) * الكاف: للتشبيه، وذلك: إشارة إلى الفعل، أي: مثل ذلك الفعل، وهو تكون الولد بين الفاني والعاقر، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخبارا من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلا، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة: سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: فعلا مثل ذلك الفعل، أو على أنها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف: من يفعل، وذكل على مذهب سيبويه، وقد تقدم لنا مثل هذا، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبرا، وذلك على حذف مضاف، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، ويكون * (يفعل ما يشاء) * شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة: الله، قال: * (ويفعل * ما يشاء) * بيان له، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات. إنتهى.
وقال ابن عطية: أي: كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله. إنتهى.
وعلى هذا الاحتمال، تكون الكاف في موضع رفع، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة. قال ابن عطية وغيره: واللفظ لابن عطية: ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته، كأنه قال: رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له: كما أنتما يكحون لكما الغلام. والكلام تام على هذا التأويل. في قوله: كذلك وقوله: الله يفعل ما يشاء. جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب. إنتهى كلامه. فيكون: كذلك، متعلقا بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال: يهب لك الولد وأنت بحالتك.
(٤٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 465 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 ... » »»