تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٥٩
الدليل، فوجب رده، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير، والصبي ليس كذلك، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذكل، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري: وما يروي في الحديث: (ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها). فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان صفتهما لقوله: * (لاغوينهم * أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * واستهلاله صارخا من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
* لما تؤذن الدنيا به من صروفها * يكون بكاء الطفل ساعة يولد وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه. إنتهى كلامه. وهو جار على طريقة أهل الاعتزال، وقد مرلنا شيء من الكلام على هذا في قوله: * (كالذى * يتخبطه الشيطان من المس) *.
* * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * قال الزجاج: الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على: قبلها قبولا، يقال: قبل الشيء قبولا والقياس فيه الضم: كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال: قبلته قبولا وقبولا. وقال ابن عباس: معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم: تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن: معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي: استقبلها ربها، نحو: تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم: استقبل الأمر أي أخذه بأوله. قال:
* وخير الأمر ما استقبلت منه * وليس ببأن تتبعه اتباعا * أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت. وقيل: المعنى فقبلها أي: رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسني لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك، ويكون: تفعل، بمعنى الفعل المجرد نحو: تعجب وعجب، وتبرأ وبرئ.
والباء في: بقبول، قيل: زائدة، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر، وقيل: ليست بزائدة.
والقبول اسم لما يقبل به الشيء: كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر، أو: مصدر على تقدير حذف مضاف أي: بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول
(٤٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 454 455 456 457 458 459 460 461 462 463 464 ... » »»