تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٦٨
الله وقيل: الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضا، وابن عباس أيضا، والضحاك، والمسيب: هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل.
وإيراد الحصور وصفا في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك.
قال مجاهد: كان طعام يحيي العشب، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه، وكان الدمع اتخذ مجرى في وجهه.
قيل: ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا.
وقيل: الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال الأخطل:
* وشارب مربح بالكأس نادمني * لا بالحصور ولا فيها بسآر * فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو.
وقد روي أنه: مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خلقت. والحصور والحصر كما تم السر قال جرير:
* ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا * حصرا بسرك يا أميم ضنينا * وجاء في الحديث عن ابن العاصي، ما معناه: أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلا مثل هذا العود، يشير إلى عويد صغير. وفي رواية أبي هريرة: كان ذكره مثل هذه القذاة، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها. وقد استدل بقوله * (وحصورا) * من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، وهو مذهب الجمهور خلافا لمذهب أبي حنيفة، فإنه بالعكس.
* (ونبيا) * هذا الوصف الأشرف، وهو أعلى الأوصاف، فذكر أولا الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده، وهو: التصديق الذي هو الإيمان، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه، ثم ذكر الزهادة وخصوصا فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء، ثم ذكر الرتبة العليا وهي: رتبة النبوة. وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف. مريم عليها السلام، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، فأجابة إلى ذلك، ووهب له يحيى على وفق. ما طلب، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة، وكان يحيى سيدا، فاشتركا في هذا الوصف. وكانت مريم عذراء بتولا لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء. وكانت مريم أتاها الملك رسولا من عند الله وحاوراها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية، وكان يحيى نبيا، وحقيقة النبوة هو أن يوحي الله إليه، فقد اشتركا في هذا الوصف.
* (من الصالحين) * يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء، كما قال: * (ذرية بعضها من بعض) * ويحتمل أن يكون المعنى: وصالحا من جملة الصالحين. كما قال تعالى في وصف إبراهيم * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) * قال ابن الأنباري: معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني: خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج: الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم. انتهى.
(٤٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 463 464 465 466 467 468 469 470 471 472 473 ... » »»