تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٤٧
حالية، وهو بعيد جدا، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه. وظاهر هذا الإخبار أنه عن الذين يأكلون الربا، وقيل: هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك، بدليل قولهم: * (إنما البيع مثل) * وقوله: * (الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) * وقوله: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وجبير، والضحاك، والربيع، والسدي، وابن زيد: معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلا كالمجانين، عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله: لا يقومون يوم القيامة.
وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا، فجوزي في الآخرة بمثل فعله. وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) رأى أكلة الربا، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم.
قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره قد جن. هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
* وتصبح عن غب السرى وكأنها * ألم بها من طائف الجن أولق لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. إنتهى كلامه. وهو حسن، إلا كما يقوم الكاف في موضع الحال، أو نعتا لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبوية وغيره، وتقدم في مواضع.
* و: ما، الظاهر أنها مصدرية، أي: كقيام الذي، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلا كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان. قيل: معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهرا لبطن، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.
وظاهر الآية أن الشيطان يتخبط الإنسان، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس، وليس يفي العقل ما يمنع من ذلك، وقيل: ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه، فنسب إلى الشيطان مجازا تشبيها بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم، وقيل: أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخيبط الإنسان فيصرعه، فورد على ما كانوا يعتقدون، يقولون: رجل ممسوس، وجن الرجل.
قال الزمخشري: ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات. إنتهى.
وتخبط هنا: تفعل، موافق للمجرد، وهو خبط، وهو أحد معاني: تفعل، نحو: تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه.
من المس، المس الجنون يقال: مس فهو ممسوس وبه مس. أنشد ابن الأنباري، رحمة الله تعالى:
* أعلل نفسي بما لا يكون * كذي المس جن ولم يخنق وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، وسمي الجنون مسا كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد، ويتعلق: من المس، بقوله: يتخبطه، وهو على سبيل التأكيد، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلا من المس، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي، فأزال قوله: من المس، هذا الاحتمال. وقيل: يتعلق: بيقوم، أي: كما يقوم من جنونه المصروع.
* وقال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق قوله: من المس؟.
قلت: بلا يقومون، أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم
(٣٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 352 ... » »»