تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٤٩
الكفار، لقوله: * (فله ما سلف) * لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف، بل ينقض ويرد فعله، وإن كان جاهلا بالتحريم، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية.
* (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) * حذف تاء التأنيث من: جاءته، للفصل، ولأن تأنيث الموعظة مجازي. وقرأ أبي، والحسن: فمن جاءته بالتاء على الأصل، وتلث عائشة هذه الآية حين سألتها العالية بنت أبقع، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقدا من زيد بن أرقم، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه، فقالت عائشة: بئسما شريت وما اشتريت، فابلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلا أن يتوب، فقالت العالية: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟ فتلت الآية عائشة. والموعظة: التحريم، أو: الوعيد، أو: القرآن، أقوال. ويتعلق: من ربه، بجاءته، أو: بمحذوف، فيكون صفة لموعظة، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه، الناظر له في مصالحه، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة. إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده، فانتهى تبع النهي، ورجع عن المعاملة بالربا، أو عن كل محرم من الاكتساب * (فله ما سلف) * أي ما تقدم له أخذه من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف، ومن كان يتجر هنالك. وهذا على قول من قال: الآية مخصوصة بالكفار، ومن قال: إنها عامة فمعناه: فله ما سلف، قبل التحريم.
* (وأمره إلى الله) * الظاهر أن الضمير في: أمره، عائد على المنتهي، إذ سياق الكلام معه، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: أمره إلى طاعة وخير، وموضع رجاء، والأمر هنا ليس في الربا خاصة، بل وجملة أموره، وقيل: في الجزاء والمحاسبة، وقيل: في العفو والعقوبة، وقيل: أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة، لا إلى الذين عاملهم، فلا يطالبونه بشيء، وقيل: المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة، قال الحسن.
وقيل: الضمير يعود على: ما سلف، أي في العفو عنه، وإسقاط التبعة فيه، وقيل: يعود على ذي الربا، أي: في أن يثبته على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية. قاله ابن جبير، ومقاتل، وقيل: يعود على الربا أي في إمرار تحريمه، أو غير ذلك، وقيل: في عفو الله من شاء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
* (ومن عاد) * إلى فعل الربا، والقول بأن البيع مثل الربا، قال سفيان: ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود * (فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) * تقدم تفسير هذه الجملة الواقعة خبرا: لمن، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأبيد.
وقال الزمخشري: وهذا دليل بين على تخليد الفساق. إنتهى. وهو جار على مذهبه الاعتزالي في: أن الفاسق يخلد في النار أبدا ولا يخرج منها، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات، وروي عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وسأل مالكا رحمه الله رجل رأى سكران يتقافز، يريد أن يأخذ القمر، فقال: امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر، أتطلق امرأته؟ فقال له مالك، بعد أن رده مرتين: امرأتك طالق، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب.
* (يمحق الله الربواا) * أي: يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير؛ وعن ابن مسعود: أن الربا وإن كثر، فعاقبته إلى قل. وروى الضحاك عن ابن عباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقة وصلة رحم وجهاد ونحو ذلك.
* (ويربى الصدقات) * قيل: الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة،
(٣٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 354 ... » »»