تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٤٠
نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم) من التصدق عليهم، أو امتنع هو من ذلك، وقد سأله يهودي، فنزلت هذه الآية.
وظاهر الهدى أنه مقابل الضلال، وهو مصدر مضاف للمفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، أي: خلق الهدى في قلوبهم، وأما الهدى بمعنى الدعاء فهو عليه، وليس بمراد هنا. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم)، وهو نظير: * (إن عليك إلا البلاغ) * فالمعنى: ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعه الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله، هداهم ليس إليك. وجعل الزمخشري هنا الهدى ليس مقابلا للضلال الذي يراد به الكفر، فقال: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغيره، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب، ويبعد ما قاله الزمخشري قوله: * (ولاكن الله يهدى من يشاء) * فظاهره أنه يراد به هدى الإيمان. وقال الزمخشري قوله: * (ولاكن الله يهدى من يشاء) * تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه، فينتهي عما نهى عنه. إنتهى. فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال، وإنما حمله على هدى خاص، وهو خلاف الظاهر، كما قلنا. وقيل: الهداية هنا الغنى أي: ليس عليك أن تغنيهم، وإنما عليك أن تواسيهم، فإن الله يغني من يشاء. وتسمية الغنى: هداية، على طريقة العرب من نحو قولهم: رشدت واهتديت، لمن ظفر، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر:
* فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري، وفي قوله: هداهم، طباق معنوي، إذ المعنى: ليس عليك هدى الضالين، وظاهر الخطاب في: ليس عليك، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم).
* ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله: * (يؤتى الحكمة من يشاء) * الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين: من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال. فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين، تجوز الصدقة عليهم. وقيل: المعنى في: * (ليس عليك هداهم) * هو ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل المطلوب منهم الإيمان على سبيل الطوع والاختيار. وفي قوله: * (ولاكن الله يهدى من يشاء) * رد على القدرية، وتجنيس مغاير إذ: هداهم اسم، ويهدي فعل.
* (وما تنفقوا من خير فلانفسكم) * أي: فهو لأنفسكم، لا يعود نفعه ولا جدواه إلا عليكم، فلا تمنوا به، ولا تؤذوا الفقراء، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر، فإن ثوابه إنما هو لكم. وقال سفيان بن عيينة: معنى: فلأنفسكم، فلأهل دينكم، كقوله تعالى: * (فسلموا على أنفسكم) * * (ولا تقتلوا أنفسكم) * أي: أهل، دينكم، نبه على أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوع، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكفار.
وحكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيرا من المعروف، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا قط، فقيل له في ذلك، فقال: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو هذه الآية.
وروي عن علي، كرم الله وجهه، أنه كان يقول: ما أحسنت إلى أحد قط، ولا أسأت له ثم يتلو: * (وأن *
(٣٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 330 332 336 338 339 340 341 342 343 344 345 ... » »»