تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٢٣
تفاوت ما بين الضدين، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن. ولما وصف صاحب النفقة بوصفين، قابل ذلك هنا بوصفين، فقوله: * (ابتغاء * مرضات * الله) * مقابل لقوله: * (رئاء الناس) * وقوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * مقابل لقوله: * (ولا يؤمن بالله واليوم الاخر) * لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده، ولا يكون إلا عن يقين بالآخرة. والتقادير الثلاثة التي في قوله: * (مثل الذين * ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) * جارية هنا، أي: ومثل المنافقين كمثل غارس حبة، أو: مثل نفقتهم كحبة، أو: مثل المنفقين ونفقتهم كمثل حبة وغارسها. وجوزوا في: ابتغاء أن يكون مصدرا في موضع الحال. أي: مبتغين، وأن يكون مفعولا من أجله، وكذلك: وتثبيتا.
قال ابن عطية: ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولا من أجله، لعطف، وتثبيتا عليه، ولا يصح في: وتثبيتا أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت.
وقال مكي في (المشكل): كلاهما مفعول من أجله، وهو مردود بما بيناه. إنتهى كلامه.
وتثبيت، مصدر: ثبت، وهو متعد، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا تقديره الثواب من الله تعالى، أي: وتثبيتا وتحصيلا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا على الإنفاق في سبيل الله. ومن قدر المفعول غير ذلك أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، وجعله من أنفسهم على أن تكون: من، بمعنى: اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: فعلت ذلك كسرا من شهوتي، أي: لشهوتي، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له. قال الشعبي، وقتادة، والسدي، وأبو صالح، وابن زيد: معناه وتيقنا، أي: أن نفوسهم لها بصائر متأكدة، فهي تثبتهم على الإنفاق ويؤكده قراءة من قرأ: أو تبيينا من أنفسهم، وقال قتادة أيضا: وأحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي أيضا والضحاك، والكلبي: وتصديقا، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم. وقال ابن جبير، وأبو مالك: تحقيقا في دينهم. وقال ابن كيسان: إخلاصا وتوطيدا لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم. وقال الزجاج: ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها. وقال الشعبي أيضا: عزما. وقال يمان أيضا: بصيرة. وقال مجاهد، والحسن: معناه أنهم يثبتون، أي يضعون صدقاتهم. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه، وإن خالطه شك أمسك.
وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله: وتثبيتا. بمعنى: تثبتا، فيكون لازما. قال: والمصادر قد تختلف، ويقع بعضها موقع بعض، ومنه قوله: * (وتبتل إليه تبتيلا) * أي تبتلا ورد هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدم على المصدر نحو الآية، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل، تقول: إن ثبت فعل لازم معناه: تمكن، ورسخ، وتحقق. وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه: مكن، وحقق. قال ابن رواحة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم):
* فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا فالمعنى، والله أعلم، أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان بهذا العمل الذي هو إخراج المال الذي هو عديل الروح في سبيل الله ابتغاء رضا، لأن مثل هذا العمل شاق على النفس، فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان، وما ترجو من الله بهذا العمل الصعب، لأنها إذا ثبتت على الأمر الصعب انقادت وذلت له.
* وإذا كان التثبيت مسندا إليهم كانت: من، في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في: هز من عطفه، و: حرك من نشاطه، وإن كان التثبيت مسندا في المعنى إلى أنفسهم كانت: من، في موضع نصب أيضا صفة للمصدر تقديره: كائنا من أنفسهم.
قال الزمخشري
(٣٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 315 316 318 319 320 323 324 325 326 327 328 ... » »»