تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣١٥
التي تقتل، سميت بذلك لأنها تعصر السحاب، وجمعها أعاصير.
الاحتراق: معروف وفعله لا يتعدى، ومتعديه رباعي، تقول: أحرقت النار الحطب والخبز، وحرق ناب الرجل ثلاثي لازم إذا احتك بغيره غيظا، ومتعد تقول: حرق الرجل نابه، حكه بغيره من الغيظ. قال الشاعر:
* أبى الضيم والنعمان يحرق نابه * عليه فأفضى والسيوف معاقله * قرأناه برفع الناب ونصبه.
* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * مناسبة هذه الأية لما قبلها هي أنه لما ذكر قصة المار على قرية وقصة إبراهيم، وكانا من أدل دليل على البعث، ذكر ما ينتفع به يوم البعث، وما يجد جدواه هناك. وهو الإنفاق في سبيل الله، كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله: * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا) * وكما أعقب قتل داود جالوت، وقوله: * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * بقوله: * (ما يريد يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم) * فكذلك أعقب هنا ذكر الإحياء والإماتة بذكر النفقة في سبيل الله، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله إنما تظهر حقيقة يوم البعث: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) * واستدعاء النفقة في سبيل الله مذكر بالبعث، وخاض على اعتقاده، لأنه لو لم يعتقد وجوده لما كان ينفق في سبيل الله، وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضا إلى البعث، وعظيم القدرة، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعائة حبة، فمن كان قادرا على مثل هذا الأمر العجاب، فهو قادر على إحياء الموات، وبجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو.
ويقال: لما ذكر المبدأ والمعاد، ودلائل صحتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله، وأمعن في ذلك، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي جوز شرعا. ولما أمل في ذكر التضعيف في قوله: * (أضعافا كثيرة) * وأطلق في قوله: * (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم) * فصل في هذه الآية، وقيد بذكر المشبه به، وما بين الآيات دلالة على قدرته على الإحياء والإماتة، إذا لولا ذلك لم يحسن التكليف كما ذكرناه، فهذه وجوه من المناسبة والمثل هنا الصفة، ولذك قال: * (كمثل حبة) * أي كصفة حبة، وتقدير زيادة الكاف، أو زيادة مثل. قول بعيد. وهذه الآية شبيهة في تقدير الحذف بقوله: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) * فيحتمل أن يكون الحذف من الأول، أي: مثل منفق الذين، أو من الثاني: أي كمثل زارع حتى يصح التشبيه، أو من الأول ومن الثاني باختلاف التقدير، أي: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ومنفقهم. كمثل حبة وزارعها. وقد تقدم الكلام في تقرير هذا الوجه في قصة الكافر والناعق، فيطالع هناك.
وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في سبيل الله جميع ما هو طاعة، وعائد نفعه على المسلمين، وأعظمها وأغناها الجهاد لإعلاء كلمة الله وقيل: المراد: بسبيل الله، هنا الجهاد خاصة، وظاهر الإنفاق في سبيل الله يقتفي الفرض والنفل، ويقتضي الإنفاق على نفسه في الجهاد وغيره، والإنفاق على غيره ليتقوى به على طاعة من جهاد أو غيره. وشبه الإنفاق بالزرع، لأن الزرع لا ينقطع.
وأظهر تاء التأنيث عند السين: الحرميان، وعاصم، وابن ذكوان، وأدغم الباقون. ولتقارب السين من التاء أبدلت منها: النات، والأكيات في: الناس، والأكياس.
ونسب الإنبات إلى الحبة على سبيل المجاز، إذ كانت سببا للإنبات، كما ينسب ذلك إلى الماء والأرض والمنبت هو الله، والمعنى: أن الحبة خرج منها ساق، تشعب منها سبع شعب، في كل شعبة سنبلة، في كل سنبلة مائة حبة، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر، قالوا: والممثل به موجود، شوهد ذلك في سنبلة الجاورس. وقال الزمخشري: هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق
(٣١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 310 311 312 313 314 315 316 318 319 320 323 ... » »»