تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٢٥
المأكول، وأريد هنا الثمر، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الدابة، إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو بضم الهمزة، وإسكان الكاف، وكذا كل مضاف إلى مؤنث. ونقل أبو عمرو فيما أضيف إلى غير مكني، أو إلى مكني مذكر، والباقون بالتثقيل.
ومعنى: ضعفين: مثلا ما كانت تثمر بسبب الوابل، وبكونه في ربوة، لأن ريع الربا أكثر، ومن السيل والبرد أبعد، وقيل: ضعفي غيرها من الأرضين، وقيل: أربعة أمثالها، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه.
وقال أبو مسلم: ثلاثة أمثالها، قال تاج القراء. وليس لهذا في العربية وجه، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد وقال عكرمة، وعطاء: معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين. ويحتمل عندي أن يكون قوله: ضعفين، مما لا يزاد به شفع الواحد، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير. وكأنه قيل: فآتت أكلها ضعفين، ضعفا بعد ضعف أي: أضعافا كثيرة، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة، لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين، بل جاء تضاعف أضعافا كثيرة، وعشر أمثالها، وسبع مائة وأزيد.
* (فإن لم يصبها وابل فطل) * قال ابن عيسى: فيه إضمار، التقدير: فإن لم يكن يصيبها وابل كما قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أي: لم تكن تلدني، والمعنى: أن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك أكرم الأرض وطيبها، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر. وقيل: المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر. قال الماوردي: زرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه: وإن قل تماسك ونفع. انتهى.
ودعوى التقديم والتأخير في الآية، على ما قاله بعضهم، من أن المعنى أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل، فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل ايتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل، لا حاجة إليها. والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر، فينزه القرآن عن ذلك.
قال زيد بن أسلم: المضروب به المثل أرض مصر، إن لم يصبها مطر زكت، وإن أصابها مطر أضعفت.
قال الزمخشري: مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم كثيرة، كانت أو قليلة، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع، زاكية عند الله، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده. انتهى كلامه.
وقال الماوردي قريبا من كلام الزمخشري، قال: أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر، كثير النفع، وقليل البر مثل زرع الطل، قليل النفع. فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر. انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: شبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو، بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا.
وقال ابن الجوزي: معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. انتهى.
وقوله: فطل جواب للشرط، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، أي: فطل يصيبها، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط. وذكر بعضهم أن هذا من مسوغات جواز الابتداء بالنكرة، ومثله ما جاء في المثل: إن ذهب عير فعير في الرباط. وقدره غير المبرد: خبر مبتدأ محذوف. أي: فالذي يصيبها، أو: فمصيبها طل، وقدره بعضهم فاعلا، أي فيصيبها طل، وكل هذه التقادير سائغة. والآخر يحتاج فيه إلى
(٣٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 318 319 320 323 324 325 326 327 328 329 330 ... » »»