تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٠٥
* (ولنجعلك ءاية للناس) * قيل: الواو، مقحمة أي: لنجعلك آية، وقيل: تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي: أريناك ذلك لتعلم قدرتنا، ولنجعلك آية للناس. وقيل: بفعل محذوف مقدر تأخيره، أي: ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقال الأعمش: كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا. وقال عكرمة: جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد ينوفون على مائة سنة، وقيل: كونه آية هو أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، وكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا، وقيل: أتى قومه راكب حماره، وقال: أنا عزير، فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يهذهذ عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفا، فقالوا هو: ابن الله. ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير، فذلك كونه آية. وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض دون بعض.
والألف واللام في: للناس، للعهد إن غنى به من بقي من قومه، أو من كان في عصره. أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.
* (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * يعني، بالعظام عظام نفسه، قاله قتادة، والضحاك، والربيع، وابن زيد. أو: عظام حماره، أو عظامهما. زاد الزمخشري: أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم، وهذا فيه بعد، لأنهم لم يحيوا له في الدنيا، ولا يمكن أن يكون يقال له في الآخرة * (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * وإنما هذا قيل له في الدنيا، فلا يمكن حمله إلا على عظامه، أو عظام حماره، أو عظامهما. والأظهر أن يراد عظام الحمار، والتقدير: إلى العظام منه، أو، على رأى الكوفيين، أن الألف واللام عوض من الضمير، أي: إلى عظامه، لأنه قد أخبر أنه بعثه، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتا، ثم أعقب الأمر بالنظر بالفاء، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: ننشرها، بضم النون والراء المهملة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو حيوة، وأبان عن عاصم: بفتح النون والراء المهملة، وهما من أنشر ونشر بمعنى: أحياء ويحتمل نشر أن يكون ضد الطي، كأن الموت طي العظام والأعضاء، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشر وقرأ باقي السبعة: ننشزها، بضم النون والزاي المعجمة وقرأ النخعي: بفتح النون، وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس، وقتادة، قاله ابن عطية. وقال السجاوندي، عن النخعي أنه قرأ بفتح الياء وضمها مع الراء والزاي.
ومعنى: ننشزها، بالزاي: نحركها، أو نرفع بعضها إلى بعض للتركيب للإحياء، يقال: نشز وأنشزته. قال ابن عطية: وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع. وقال النقاشي: ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك، ومن ذلك: نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة، كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها، وأنشزوا فأنشزوا أي ارتفعوا شيئا فشيئا كنشوز الناب، فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال لمن ارتفع في حائط أو غرفة: نشز. انتهى كلامه.
وقرأ أبي: كيف ننشيها، بالياء أي نخلقها. وقال بعضهم: العظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، فالزاي أولى بهذا المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء، فالموصوف بالإحياء الرجل دون العظام. ولا يقال: هذا عظم حي. فالمعنى: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. انتهى.
والقراءة بالراء متواترة، فلا تكون قراءة الزاي أولى.
و: كيف، منصوبة بننشرها نصب الأحوال، وذو الحال مفعول ننشرها، ولا يجوز أن يعمل فيها: انظر، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وأعربوا: كيف ننشرها، حالا من العظام، تقديره: وانظر إلى العظام محياة، وهذا ليس بشيء، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا، وإنما تقع حالا: كيف، وحدها نحو: كيف ضربت زيدا؟ ولذلك تقول: قائما أم قاعدا؟ فتبدل منها الحال.
والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة
(٣٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 300 301 302 303 304 305 306 307 308 309 310 ... » »»