تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٠٧
* (ولنجعلك ءاية للناس) * الخ وهو مقدم في اللفظ، مؤخر في الرتبة.
وفي هذه الآية أقوى دليل على البعث إذ وقعت الإماتة والإحياء في دار الدنيا مشاهدة.
* (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) * قرأ الجمهور: تبين، مبنيا للفاعل، وقرأ ابن عباس: تبين له، مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقرأ ابن السميفع: بيه له، بغير تاء مبنيا لما لم يسم فاعله، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى، وقدره الزمخشري: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعني أمر إحياء الموتى، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى؛ وتفسير الإعراب أن يقدر مضمرا يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت. وقال الطبري: لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل إعادته. قال ابن عطية: وهذا خطأ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه، وفسر على القول الشاذ، والاحتمال الضعيف ما حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء، ولذلك ضرب له المثل في نفسه. إنتهى.
وقال الزمخشري وبدأ به ما نصه: وفاعل تبين مضمر تقديره: فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم: ضربني وضربت زيدا. إنتهى كلامه. فجعل ذلك من باب الإعمال، وهذا ليس من باب الإعمال، لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا، وأدى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبرا، ويكون العامل الثاني معمولا للأول، وذلك نحو قولك: جاءني يضحك زيد. فجعل في جاءني ضميرا أو في يضحك، حتى لا يكونه هذا الفعل فاصلا، ولا يرد على هذا جعلهم * (اتونى أفرغ عليه قطرا) * ولا * (هاؤم اقرؤا كتابيه) * ولا * (تعالوا يستغفر لكم رسول الله) * ولا * (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة) * من الإعمال لأن هذه العوامل مشتركة بوجه ما من وجوه الاشتراك، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو. فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشركا بينه وبين: تبين، الذي هو العامل الأول بحرف عطف، ولا بغيره، ولا هو معمول: لتبين، بل هو معمول: لقال، وقال جواب، لما أن قلنا: إنها حرف وعاملة في، لما أن قلنا إنها ظرف، و: تبين، على هذا القول في موضع خفض بالظرف، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب: لو جاء قتلت زيدا، ولا: لما متى جاء قتلت زيدا، ولا: إذا جاء ضربت خالدا. ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول: أكرمت أهنت زيدا.
وقد ناقض الزمخشري في قوله: فإنه قال: وفاعل تبين مضمر، ثم قدره، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم. إلى آخره، قال: فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيدا، والحذف ينافي الإضمار للفاعل، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلا، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الكسائي من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر، بل يحذف عنده الفاعل، والسماع يرد عليه. قال الشاعر:
* هو يتني وهويت الخرد العربا * أزمان كنت منوطا بي هوى وصبا وأما على قراءة ابن عباس فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما في قراءة ابن السميفع فهو مضمر: أي: بين له هو، أي: كيفية الإحياء.
* وقرأ الجمهور و: قال مبنيا للفاعل، على قراءة جمهور السبعة: أعلم، مضارعا ضميره يعود على المار، وقال ذلك على سبيل الاعتبار، كما أن الانسان إذا رأى شيئا غريبا قال: لا إله إلا الله.
وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته، يعني يعلم عيانا ما كان يعلمه غيبا. وأما على قراءة
(٣٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 302 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 ... » »»