تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٠٠
والأحسن أن تجعل قراءة نافع على لغة بني تميم. لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف على ما تأوله عليه بعضهم، قال: وهو ضعيف جدا، وليس هذا مما يحسن الأخذ به في القرآن. إنتهى. فإذا حملنا ذلك على لغة تميم كان فصيحا.
* (وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * لما خيل الكافر أنه مشارك لرب إبراهيم في الوصف الذي ذكره إبراهيم، ورأى إبراهيم من معارضته ما يدل على ضعف فهمه أو مغالطته، فإنه عارض اللفظ بمثله، ولم يتدبر اختلاف الوصفين، ذكر له ما لا يمكن أن يدعيه، ولا يغالط فيه، واختلف المفسرون هل ذلك انتقال من دليل إلى دليل؟ أو هو دليل واحد والانتقال فيه من مثال إلى مثال أوضح منه؟ وإلى القول الأول ذهب الزمخشري. قال: وكان الاعتراض عتيدا، ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة. إنتهى كلامه.
ومعنى قول الزمخشري: وكان الاعتراض عتيدا: أي من إبراهيم، لو أراد أن يعترض عليه بأن يقول له: أحي من أمت، فكان يكون في ذلك نصرة الحجة الأولى، وقد قيل: إنه قال له ذلك، فانقطع به، وأردفه إبراهيم بحجة ثانية، فحاجه من وجهين، وكان ذلك قصدا لقطع المحاجة، لا عجزا عن نصرة الحجة الأولى، وقيل: كان نمروذ يدعي الربوبية، فلما قال له: * (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه وأميت) * أي: الذي يفعل ذلك أنا لا من نسبت ذلك إليه، فلما سمع إبراهيم افتراءه العظيم، ودعاءه الباطل تمويها وتلبيسا، اقترح عليه، فقال: * (فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * فافحم وبان عجزه وظهر كذبه.
وقيل: لما قال: * (ربي الذى يحى * ويميت) * قال له النمروذ: وأنت رأيت هذا؟ فلما لم يكن رآه مع علمه أن الله قادر عليه انتقل إلى ما هو واضح عنده وعند غيره، وقيل: انتقل لأنهم كانوا يعظمون الشمس، فأشار إلى أنها لله عز وجل مقهورة.
وأما القول الئاني: وهو أنه ليس انتقالا من دليل إلى دليل، بل الدليل واحد في الموضعين، فهذا قول المحققين، قالوا: وهو إنا نرى حدوث أشياء لا يقدر أحد على إحداثها، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو الله تعالى ولها أمثلة: منها: الإحياء والإماتة. ومنها: السحاب والرعد والبرق. ومنها: حركات الأفلاك والكواكب. والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل، فكان ما فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكون الدليل واحدا لا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وليس من باب ما قع الانتقال فيه من دليل إلى دليل آخر، ولما كان إبراهيم في المقام الأول الذي سأله الكافر عن ربه حين ادعى الكافر الربوبية، * (قال إبراهيم ربي الذى يحى ويميت) * فلما انتقل إلى دليل أو مثال أوضح وأقطع للخصم، عدل إلى الاسم الشائع عند العالم كلهم فقال: * (فإن الله يأتى بالشمس من المشرق) * قرر بذلك بأن ربه الذي يحيي ويميت هو الذي أوجدك وغيرك أيها الكافر، ولم يقل: فإن ربي يأتي بالشمس، ليبين أن إله العالم كلهم هو ربه الذي يعبدونه، ولأن العالم يسلمون أنه لا يأتي بها من المشرق إلا إلهم.
ومجئ الفاء في: فإن، يدل على جملة محذوفة قبلها، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل أفاء، وكأن التركيب قال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس، وتقدير الجملة، والله أعلم؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك، فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، و: الباء، في بالشمس للتعدية، تقول: أتت الشمس، وأتى بها الله، أي أحياها، و: من، لابتداء الغاية.
* (فبهت الذى كفر) * قراءة الجمهور مبنيا لما لم يسم فاعله، والفاعل المحذوف إبراهيم إذ هو المناظر له، فلما أتى بالحجة الدامغة بهته بذلك وحيره وغلبه، ويحتمل أن يكونه الفاعل المحذوف المصدر المفهوم من: قال، أي: فحيره قول إبراهيم وبهته.
وقرأ ابن السميفع: فبهت، بفتح الباء والهاء، والظاهر أنه متعد كقراءة الجمهور فبهت مبينا للمفعول أي فبهت إبراهيم الذي كفر وقيل: المعنى، فبهت الكافر إبراهيم، أي: سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة، ويحتمل أن يكون لازما ويكون الذي كفر فاعلا، والمعنى:: بهت أو أتى بالبهتان.
وقرأ أبو حيوة: فبهت، بفتح الباء وضم الهاء. وقرئ فيما حكاه الأخفش:
(٣٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 295 296 297 298 299 300 301 302 303 304 305 ... » »»