تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٧٢
* بثينة من آل النساء وإنما * يكن لأدنى، لا وصال لغائب * أي: من النساء. إنتهى. ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق، وقول الزمخشري: والآل مقحم لتفخيم شأنهما ان عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله: ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون؟ وإن عنى بالآل الشخص، فإنه يطلق على شخص الرجل آله، فكأنه قيل: مما ترك موسى وهارون أنفسهما، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به: أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما، وكان ذلك مقحما لأنه لو قيل: مما ترك موسى وهارون لاكتفى، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما، تركا ذلك وورث عنهما.
* (تحمله الملائكة) * وقرأ مجاهد: يحمله، بالياء من أسفل، والضمير يعود على التابوت، وهذه الجملة حال من التابوت، أي حاملا له الملائكة، ويحتمل الاستئناف، كأنه قيل: ومن يأتي به وقد فقد؟ فقال: * (تحمله الملائكة) * استعظاما لشأن هذه الآية العظيمة، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام، ولهم القوة والتمكينه والاطلاع بأقدار الله لهم على ذلك، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم، وقلبهم مدائن العصاة، وقبض الأرواح، وإرجاء السحاب، وحمل العرش، وغير ذلك من الأمور الخارقة، والمعنى: تحمله الملائكة إليكم.
قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت.
قال وهب: قالوا لنبيهم: انعت وقتا تأتينا به فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض.
وقال قتادة: كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت، فأقروا بملكه. قال ابن زيد: غير راضين، وقيل: سبى التابوت أهل الأردن، قرية من قرى بفلسطين، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم، فأصبح الصنم تحت التابوت، فسمروا قدمي الصنم على التابوت، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت، وأصنامهم منكسة، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فدفنوه بالصحراء في متبرز لهم، فكان من تبرزب هناك أخذه الناسور والقولنج، فتحيروا، وقالت امرأة من أولا الأنبياء من بني إسرائيل: ما تزالوا ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم فحملوا التابوت على عجلة، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين، وضربوا جنوبهما، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما، فما مر التابوت بشيء من الأرض إلا كان مقدسا إلى أرض بني إسرائيل، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل، ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بني إسرائيل إلا التابوت، فكبوا وحمدوا الله على تمليك طالوت، فذلك قوله: * (تحمله الملائكة) *.
وقال ابن عباس: إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة، وقيل يوم القيامة، وقيل: عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام.
* (إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين) * قيل: الإشارة إلى التابوت، والأحسن أن يعود على الإتيان أي: إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها، لأن أولها * (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه) * والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم، وقيل: علامة لكم على نصركم على عدوكم، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا، فينصرون.
و: إن، قيل على حالها من وضعها للشرط. أي: ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل: صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم. وقيل: إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم، وقيل: إن كنتم مصدقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكا. وقيل: مصدقين بأن وعد الله حق. وقيل: إن، بمعنى: إذ، ولم يسألوا تكذيبا لنبيهم، وإنما سألوا تعرفا لوجه الحكمة، والسؤال عن الكيفية لا يكون انكارا كليا.
* (فلما فصل طالوت بالجنود) * بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره: فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج، فلما فصل طالوت، أي: انفصل من مكان اقامته، يقال: فصل عن الموضع
(٢٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 277 ... » »»