تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٦٨
بيده القبض والبسط، وأن مرجع الكل إليه، ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني إسرائيل، وذلك لنعتبر بها ونقتدي منها بما كان من أحوالهم حسنا، ونجتنب ما كان قبيحا. وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها، وأنهم حين استولى عليهم العدو، فملك بلادهم وأسر أبناءهم، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب، إذ هي محتاجة إلى من يصدر عن أمره ويجتمع عليه، فسألوا نبيهم أن ينهض. لهم ملكا برسم الجهاد في سبيل الله، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه، فأجابوه: بأنا قد وترنا، وأخرجنا من ديارنا، وأبنائنا، وهذا أصعب شيء على النفوس، وهو أن يخرج من مسكن ألفه، ويفرق بينه وبين أبنائه، ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر). وكثيرا ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد، ألا ترى إلى قول بلال:
* ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي إذ حر وجليل وكان قتيبة بن سعيد المحدث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة، وحمل الناس العلم عنه، وكان ببغداد، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيرا ببغلان، قيل: وهي ضيعة من أصغر الضياع، فتمنى أن لو كان مقيما بها، ويترك رئاسة بغداد، دار الخلافة، وذلك نزوع إلى الوطن، وذكر تعالى أنه لما فرض القتال عليهم: أعرضوا عن قبوله إلا قليلا فإنه أخذ أمر الله بالقبول، ثم عرض تعالى بالظالمين، وهم: الذين لم يقبلوا أمر الله بعد أن كانوا طلبوه، فهو يجازيهم على ظلمهم، ثم أخبر تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن الله إنه قد بعث طالوت ملكا عليهم، ولم يكن عندهم من أنفسهم ولا أشرفهم منصبا، إذ ليس من سبط النبوة، ولا من سبط الملك، فلم يأخذوا ما أخبرهم عن الله بالقبول، وشرعوا يتعنتون على عادتهم مع أنبيائهم، فاستبعدوا تمليكه عليهم، لأن فيهم من هو أحق بالملك منه على زعمهم، إذ لم يسبق له أن يكون من آبائه ملك فيعظم عند العامة، ولأنه فقير، وهاتان الخلتان هما يضعفان الملك، إذ سابق الرئاسة والجاه والملاءة بالأموال مما يستتبع الرجال، ويستعبد الأحرار، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلا. فأخبرهم نبيهم، أن الله تعالى قد اختاره عليكم، وشرفه بخصلتين: هما في ذاته: إحداهما: الخلق العظيم، والأخرى: المعرفة التي هي الفضل الجسيم، واستغنى بهذين الوصفين الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات، وهما الفخر: بالعظم الرميم، والاستكثار بالمال الذي مرتعه وخيم. ثم أخبر أن الله تعالى يعطى ملكه من أراد، وأنه الواسع الفضل، العالم بمصالح العباد، فلا اعتراض عليه.
(* (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هارون تحمله الملئكة إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين * فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منىإلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده
(٢٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 263 264 265 266 267 268 269 270 271 272 273 ... » »»