تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٧١
عنهم في حديث أسيد، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم، وقد جاء في (الصحيح): (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة. وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده).
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان، واستقرار ذلك في قلوبهم، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه. والتفكر في أساليبه، ما يطمئن إليه قلبه، وتستقر له نفسه، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خاليا من ذلك، فحين تلا نزل ذلك عليه.
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين، قال قتادة السكينة هنا الوقار. وقال عطاء: ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال نحوه الزجاج.
وقال الزمخشري: التابوت صندوق التوراة، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، والسكينة: السكون والطمأنينة، وذكر عن علي أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة، وقيل: السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدو، وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتت وسكنوا، ونزل النصر. وقيل: بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء، فإن الله ينصر طالوت وجنوده، ويقال: جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح، والعصا، وآثار أصحاب نبوتهم، وجعل تعالى سكينة هذه الآمة في قلوبهم، وفرق بين مقر تداولته الأيدي، قد فر مرة، وغلب عليه مرة، وبين مقربين إصبعين من أصابع الرحمن.
وقرأ أبو السماك: سكينة، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة، بقوله: فيه، وهو في موضع الحال، أي: كائنا فيه سكينة. و: من، لابتداء الغاية، أي: كائنة من ربكم، فهو في موضع الصفة، أو متعلقا بما تعلق به قوله: فيه، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف، أي: من سكينات ربكم.
والبقية؛ قيل: رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قاله عكرمة. وقيل: عصا موسى قاله وهب وقيل: عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة المن، قاله أبو صالح. وقيل: العلم والتوراة قاله مجاهد، وعطاء وقيل: رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل وقيل: ققيز من من ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري وقيل: العصا والنعلان، حكاه الثوري أيضا، وقيل: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك. وقيل: التوراة ورضاض الألواح قاله السدي. وقيل: لوحان من التوراة، وثياب موسى وهارون وعصواهما، وكلمة الله: لا إله إلا الله الحكيم الكريم، وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وقيل: عصا موسى وأمور من التوراة، قاله الربيع. ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية.
* (مما ترك) * في موضع الصفة لبقية، و: من، للتبعيض.
و: * (وقال لهم نبيهم إن) * هم من الأنبياء، إليهما من قرابة أو شريعة، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين أتوا بعدهما، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد. ونذكر كيفية فقده إن شاء الله.
وقال الزمخشضري: ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما. إنتهى. وقال غيره: آل هنا زائدة، والتقدير: مما ترك موسى وهارون، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى، يريد نفسه، ولقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود، أي: من مزامير داود ومنه قول جميل:
(٢٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 266 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 ... » »»