تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٨٣
درجات) * هو محمد صلى الله عليه وسلم)، أو إبراهيم، أو إدريس صلى الله عليهم، ثلاثة أقوال، قالوا: والأول أظهر، وهو قول مجاهد. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا للأول. انتهى. ويعنى أنه توكيد لقوله * (فضلنا بعضهم على بعض) *. وقال الزمخشري: * (ورفع بعضهم درجات) * أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم)، لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات.
وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم، أو بعضكم يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون، أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه.
وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر، زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث. أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره.
ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولى العزم من الرسل. انتهى كلام الزمخشري. وهو كلام حسن.
وقال غيره: وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، لأنه بعث إلى الناس كافة، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد، وهو أعظم الناس أمة، وختم به باب النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه، ومن معجزاته، وباهر آياته. وقال بعض أهل العلم: إنه أوتى صلى الله عليه وسلم) ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة، وما أوتي نبي معجزة إلا أوتي محمد صلى الله عليه وسلم) مثلها وزاد عليهم بآيات.
وانتصاب: درجات، قيل على المصدر، لأن الدرجة بمعنى الرفعة، أو على المصدر الذي في موضع الحال، أو على الحال على حذف مضاف، أي: ذوي درجات، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعن: بلغ، أو على إسقاط حرف الجر، فوصل الفعل وحرف الجر، إما: على، أو: في، أو: إلى. ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، أي: ورفع درجات بعضهم، والمعنى على درجات بعض.
* (ولقد ءاتينا ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) * تقدم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ولأن آيتيهما موجودتان، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين، ووقع منهم المنازعة والخلاف.
ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحا لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوة، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله، لا لفظه، لقربه، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله، ورفع الله، فكان يقرب التكرار، فكان الإضمار أحسن.
وفي الجملتين: المفضل منهم لا معين بالأسم، لكن يعين الأول صلة الموصول، لأنها معلومة عند السامع، ويعين الثاني ما أخبر به عنه، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات، وهذه الرتبة ليست إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم)، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الالتفات، إذ قبله غائب، وكل هذا يدل على التوسع في افانين البلاغة وأساليب الفصاحة.
* (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من
(٢٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 288 ... » »»