المغروف، وقيل: الغرفة بالفتح المرة، وبالضم ما نخمله اليد، فإذا كان مصدرا فهو على غير الصدر، إذ لو جاء على الصدر لقال: اغترافة، ويكون مفعول اغترف محذوفا، أي: ماء، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولا به، قال ابن عطية: وكان أبو علي يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضا: أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة.
ويتعلق: بيده، بقوله: اغتراف. قيل: ويجوز أن يكون نعتا لغرفة، فيتعلق بالمحذوف. وظاهر: غرفة بيده، الاقتصار على غرفة واحدة، وأنها تكون باليد، قال ابن عباس، ومقاتل: كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها، قال مقاتل: ويملأ منها قربته، قيل: فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان قال بعض المفسرين: لم يرد غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده، فأين يصل منه ذلك؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت، مع إمكان ذلك فيه، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان.
* (فشربوا منه إلا قليلا منهم) * أي: كرعوا فيه، ظاهره أن الأكثر شربوا، وإن القليل لم يشربوا، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه، ووقع به المخالفة، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه، فبقي تحت القليل قسمان: أحدهما: لم يطعمه البتة والثانية: الذين: اغترفوا بأيديهم، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة. فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة. وقيل: الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم، فلم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح. وقيل: بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلا القليل الذين لم يشربوا. والقليل المستثنى أربعة آلاف، قاله عكرمة، والسدي، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقرأ عبد الله، وأبي والأعمش: إلا قليل، بالرفع قال الزمخشري: وهذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى: فشربوا منه، في معنى: فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزذق:
* وعض زمان يا بن مروان) لم يدع * من المال إلا مسحتا أو مجلف كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت، أو مجلف انتهى كلامه.
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو: فشربوا منه، هو في معنى المنفي، كأنه قيل: فلم يطيعوه، فارتفع: قليل، على هذا المعنى، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد: إلا، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى، فالموجب فيه كالمنفي، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد: إلا، على التأويل هنا، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب، فلذلك تأوله.
ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد: إلا، وجهان