تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٧٧
والمعنى: أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا، فإن الكثرة ليست سببا للانتصار، فكثيرا ما انتصر القليل على الكثير؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعلموا بذلك، أخبروا بصيغة: كم، المقتضية للتكثير. وقرأ أبي وكأين، وهو مرادفة: لكم، في التكثير، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوبا بمن، ولو حذفت: من، لأنجر تمييز: كم، الخبرية بالإضافة، وقيل بإضمار: من، ويجوز نصبه حملا على: كم، الإستفامية، وانتصب تمييز: كأين، فتقول كأين رجلا جاءك. قال الشاعر:
* أطرد اليأس بالرجا فكأين * أملا حم يسره بعد عسر * و: كم؛ في موضع رفع على الابتداء، و: من فئة، قيل زائدة، وليس من مواضع زيادتها، وقيل: في موضع الصفة لكم، و: فئة، هنا مفرد في معنى الجمع، كأنه قيل: كثير من فئات قليلة غلبت. وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء، نحو: ميرة في: مئرة، وهو ابدال نفيس، وخبر: كم، قوله: غلبت، ومعنى: بإذن الله، بتمكينه وتسويفه الغلبة.
وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير، وإن كانوا أضعاف أضعافهم، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم، وأما جواز الفار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى.
* (والله مع الصابرين) *، تحريض على الصبر في القتال، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه، ينصره ويعينه ويؤيده، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم، ويحتمل أن يكون استئنافا من الله، قاله القفال.
* (ولما برزوا لجالوت وجنوده) * صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس، وقيل: مائة ألف، وقال عكرمة: تسعين ألفا.
* (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا) * الصبر: هنا حبس النفس للقتال، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك، ففي ذلك إشعار بالعبودية. وقولهم: أفرغ علينا صبرا سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعليا عليهم، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه.
* (وثبت أقدامنا) * فلا تزل عن مداحض القتال، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سألوا ما يكون مستعليا عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها.
* (وانصرنا على القوم الكافرين) * أي: أعنا عليهم، وجاؤوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم، وهو الكفر، وكانوا يعبدون الأصنام، وفي قولهم: ربنا، إقرار لله تعالى بالوحدانية، وقرار له بالعبودية.
* (فهزموهم بإذن الله) * أي: فغلبوهم بتمكين الله.
* (وقتل داوود جالوت) * طول المفسورن في قصة كيفية قتل داود لجالوت، ولم ينص الله على شيء من الكيفية، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصارا يدل على المقصود، فقال: كان أصغر بنيه، يعني بني إيشا، والد داود، الثلاثة عشر. وكان مخلفا في الغنم، وأوحى إلى نبيهم أن قاتل جالوت من استوت عليه من ولد إيشا درع عند طالوت، فلم تستو إلا على داود، وقيل: لما برز جالوت نادى طالوت: من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره، فقتل جماعة وانهزموا، ثم ندم طالوت من شرطه بعد الوفاء، وهم بقتل داود، ومات تائبا قاله الضحاك. وقال وهب: ندم قبل الوفاء ومات عاصيا، وقيل: أصاب
(٢٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 ... » »»