تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٩٤
ومجاهد، وطاووس، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف، فإما فاء وإلا طلق عليه؛ والقراءة المتواترة: فإن فاؤوا بغيرهن، ولا فيها، فاحتمل أن يكون التقدير: فإن فاؤوا في الأشهر، واحتمل أن يكون: فإن فاؤوا بعد انقضائها.
* (انتهوا فإن الله غفور رحيم) * استدل بهذا من قال: إنه إذا فاء المولى ووطىء فلا كفارة عليه في يمينه، وإلى هذا ذهب الحسن، وإبراهيم؛ وذهب الجمهور مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته، فيكون الغفران هنا إشعارا باسقاط الإثم بفعل الكفارة، وهو قول علي، وابن عباس، وابن المسيب: إنه غفران الإثم، وعليه كفارة، وعلى المذهب الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة، وقال أبو حنيفة: ولا كفارة على العاجز عن الوطء إذا فاء، وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر وتقوى، أو باب من أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله، ولا كفارة عليه، والحجة له، * (فان * انتهوا فإن الله غفور رحيم) * ولم يذكر كفارة، وقيل: معنى ذلك غفور لمآثم اليمين، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير، قاله ابن زياد، وهو راجع للقول الثاني، وقيل: معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضربها زوجها، فيكون وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة.
* (وإن عزموا الطلاق) * قرأ ابن عباس: وإن عزموا السراح، وانتصاب الطلاق: إما على إسقاط حرف الجر، وهو على، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال:
عزمت على إقامة ذي صباح وأما إن تضمن: عزم، معنى: نوى، فيتعدى إلى مفعول به.
ومعنى العزم هنا التصميم على الطلاق، ويظهر أن جواب الشرط محذوف، تقديره: فليوقعوه، أي: الطلاق، وفي قوله في هذا التقسيم: * (فان) * و * (ءان * عزموا الطلاق) * دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمضي الأربعة الأشهر من غير قول، بل لا بد من القول لقوله: عزموا الطلاق، لأن العزم على فعل الشيء ليس فعلا للشيء، ويؤكده: * (فإن الله سميع عليم) * إذ لا يسمع إلا الأقوال، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه، إذ قدرناه: فليوقعوه، أي الطلاق، فجاء: سميع، باعتبار إيقاع الطلاق، لأنه من باب المسموعات، وهو جواب الشرط، وجاء: عليم، باعتبار العزم على الطلاق، لأنه من باب النيات، وهو الشرط، ولا تدرك النيات إلا بالعلم.
وتأخر هذا الوصف لمؤاخاة رؤوس الآي، ولأن العلم أعم من السمع، فمتعلقة أعم، ومتعلق السمع أخص، وأبعد من قال: فإن الله سميع لإيلائه، لبعد انتظامه مع الشرط قبله. وقال الزمخشري: فإن قلت ما تقول في قوله: فإن الله سميع عليم؟ وعزمهم الطلاق مما لا يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق، وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقارنة ودمدمة، ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله، كما يسمع وسوسة الشيطان. انتهى كلامه.
وقد قدمنا أن صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى: وإن عزموا الطلاق أوقعوه، أي: الطلاق، والإيقاع لا يكون إلا باللفظ، فهو من باب المسموعات، والصفة تتعلق بالجواب لا بالشرط، فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري.
وفي قوله: * (وإن عزموا الطلاق) * دلالة مطلق الطلاق، فلا يدل على خصوصية طلاق بكونه رجعيا أو بائنا، وقد اختلف في الطلاق الداخل على المولي في ذلك، فقال عثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، والنخعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة: هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها وقال ابن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهري، ومالك، وابن شبرمة: هي رجعية.
وفي الحكم للمولي بأحد الأمرين، إما الفيئة، وإما الطلاق دليل
(١٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 189 190 191 192 193 194 195 196 197 198 199 ... » »»