تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٦
لتعلقه بمرفوعه تعلقا حقيقيا.
وقول الزمخشري: وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم إلى آخره، هذا الذي ذكره هو فعل غير المأمونين على دين الله، ولا الموثوق بهم في نقل الشريعة، والكذب من أقبح المعاصي وأذهبها الخاصة الإنسان، وخصوصا على الله، وعلى رسوله.
وقال أبو محمد بن حزم ما معناه: إنه قد يصحب الإنسان وإن كان على حالة تكره، إلا ما كان من الكاذب، فإنه يكون أول مفارق له، لكن لا يناسب قول الزمخرشي هنا: وترى كثيرا إلى آخر، كلامه اثر قوله: فإن قلت إلى آخره، لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة، فليس من باب الجرأة، واختراع اللغة.
وبنى الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحدا أو أكثر، هدا أن أريد بأخيه المقتول. أي: من دم أخيه، وقيل: شيء لأن معناه: شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله، أو أن يعفو بعض الورثة أوكلهم، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص، ولا يجب إلا الدية، وقيل: من عفي له هو ولي الدم، وعفي هنا بمعنى، يسر لا على بابها في العفو، ومن أخيه: هو القاتل، وشئ: هو الدية، والاخوة هي: اخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل: المقتول، أي: من قبل أخيه المقتول، وهذا القول قول مالك، فسر المعفو له بولي الدم، والأخ: بالقاتل، والعفو بالتيسير، وعلى هذا قال مالك: إذا جنح الولي إلى العفو على أخذ الدية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه.
وغير مالك يقول: إذا رضي الولي بالدية فلا خيار للقاتل، ويلزم الدية، وقد روي هذا عن مالك، ورجحه كثير من أصحابه، ويضعف هذا القول أن عفي بمعنى: يسر لم يثبت.
وقيل: هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة، فمعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، وتكون: عفا بمعنى: فضل، من قولهم: عفا الشيء إذا كثر، أي: أفضلت الحالة له، أو الحساب، أو القدر، وقيل: هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي: من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفي هنا بمعنى: أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع، ثم بينت الحكم إذا تداخلت، والقول الأول أظهر كما قلناه، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفي بمعنى: ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال: والأول أجود بمعنى أن يكون عفي لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع شيء، هو لكونه مصدرا أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري: إن عفي بمعنى: ترك لم يثبت.
* (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) *. ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم، أو الواجب كذا قدره ابن عطية، وقدره الزمخشري: فالأمر اتباع، وجوز أيضا رفعه بإضمار فعل تقديره: فليكن اتباع، وجوزوا أيضا أن يكون مبتدأ محذوف الخبر وتقديره، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية، وقدروه أيضا متأخرا تقديره، فاتباع بالمعروف عليه.
قال ابن عطية بعد تقديره: فالحكم أو الواجب اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله * (فإمساك بمعروف) * وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله: * (فضرب الرقاب) * انتهى.
ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلا ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: * (قالوا سلاما قال سلام) * فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا. وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري: فليكن، فهو ضعيف إذ: كان، لا تضمر غالبا إلا بعد إن الشرطية، أو: حيث يدل على إضمارها الدليل، و * (بالمعروف) * متعلق بقوله: فاتباع، وارتفاع: * (وأداء) * لكونه معطوفا على اتباع، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في: فاتباع، ويكون بإحسان متعلقا بقوله: وأداء، وجوزوا أن يكون: وأداء، مبتدأ، وبإحسان، هو
(١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 ... » »»