تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥
هذا سيبويه لأن السابق، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: ليس الكرم أن تبذل درهما، ولكن الكرم بذل الآلاف، فلا يناسب: ولكن الكريم من يبذل الآلاف إلا إن كان قبله: ليس الكريم بباذل درهم.
وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل، تقول: بررت أبر، فأنا بر وبار، قيل: فبني تارة على فعل، نحو: كهل، وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادعاء حذف الألف من البر، ومثله: سر، وقر، ورب، أي: سار، وقار، وبار، وراب.
وقال الفراء: من آمن، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبرا للأول، كأنه قال: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل، وأنشد الفراء:
* لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى * ولكنما الفتيان كل فتى ندب * جعل نبات اللحية خبرا للفتى، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى، وقرأ نافع، وابن عامر: ولكن بسكون النون خفيفة، ورفع البر، وقرأ الباقون بفتح النون مشددة ونصب البر، والإعراب واضح، وقد تقدم نظير القراءتين في * (ولاكن الشياطين كفروا) *.
* (واليوم الاخر والملئكة والكتاب والنبيين) * ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحا بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه، ومضمون الآية: ان البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور.
أحدها: الإيمان بالله، وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فللتجسيم ولقولهم: * (عزيز * عبد الله) * وأما النصارى فلقولهم: * (المسيح ابن الله) *.
الثاني: الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود أخلوا به حيث قالوا: * (لن تمسنا النار إلا أياما) * والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.
والثالث: الإيمان بالملائكة، واليهود عادوا جبريل.
والرابع: الإيمان بكتب الله، والنصارى واليهود أنكروا القرآن.
والخامس: الإيمان بالنبيين، واليهود قتلوهم، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
والسادس: بذل الأموال على وفق أمر الله، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال.
والسابع: إقامة الصلاة والزكاة، واليهود يمتنعون منها.
والثامن: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوه.
وهذا النفي السابق، والاستدراك، لا يحمل على ظاهرهما، لأنه نفي أن يكون التوجه إلى القبلة برا، ثم حكم بأن البر أمور.
أحدها: الصلاة، ولا بد فيها من استقبال القبلة، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البر، لا على نفي أصله، أي: ليس البر كله هو هذا، ولكن البر هو ما ذكر، ويحمل على نفي أصل البر، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثما وفجورا، فلا يعد في البر، أو لأن استقبال القبلة لا يكون برا إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى، وإنما يكون برا مع الإيمان.
وقدم الملائكة والكتب على الرسل، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلا بواسطة الرسل، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي، لأن الملك يوجد أولا ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي، لا الترتيب الذهني.
وقدم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، لأن المكلف له مبدأ، ووسط، ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة، وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به: وهو الكتاب، والموحى إليه: وهو الرسول.
وقدم الإيمان على أفعال الجوارح، وهو: إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان.
وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان، حصلت حقيقة الإيمان، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات، وتعلق قدرته بكل الممكنات، وإرادته وكونه سميعا وبصيرا متكلما، وكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم، من
(٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»