تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧
الخبر، وفيه بعد والفاء في قوله: فاتباع، جواب الشرط إن كانت من شرطا، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت من موصولة، فإن كانت من: كناية عن القاتل وأخوه: كناية عن الولي، وهو الظاهر، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي، وحسن التقاضي من الطالب، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله: وآداء إليه، عائدة على ما يفهم من يصاحب بوجه ما، لأن في قوله: عفي دلالة على العافي فيكون نظير قوله: * (حتى توارت بالحجاب) * إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس، وقول الشاعر:
* لك الرجل الحادي وقد منع الضحى * وطير المنايا فوقهن أواقع * أي: فوق الإبل، لأن في قوله: الحادي، دلالة عليهن، وإن كانت من كناية عن القاتل فيكون أيضا توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي، أي: فاتباع من الولي بالمعروف، وأداء من القاتل إليه بإحسان، والاتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، ولا يستعجله إلى ثلا ث سنين يجعل انتهاء الاستيفاء والأداء بالإحسان، أن لا يمطله ولا يبخسه شيئا. وهذا مروي عن ابن عباس في تفسير الاتباع والأداء.
وقيل: اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه، وقد روي في الحديث: (من زاد بعيرا في أبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية).
وقيل الاتباع والأداء معا من القاتل، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره. وقيل: المعروف حفظ الجانب ولين القول، والإحسان تطييب القول، وقيل: المعروف ما أوجبه تعالى، وقيل: المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى.
وظاهر قوله: * (فمن عفى له من أخيه شىء) * الآية. أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي، وإليه ذهب سعيد، وعطاء، والحسن، والليث، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ورواه أشهب عن مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، والثوري، وابن شبرمة: ليس للولي إلا القصاص، ولا يأخذ إلا برضى القاتل، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف، أي: فمن عفي له من أخيه شيء ورضي المعفو ودفع الدية فاتباع بالمعروف، وقد تقدمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا: * (فمن عفى) * واختلاف الناس فيه.
* (ذالك تخفيف من ربكم ورحمة) * أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط، وقيل: لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة، وقد تقدم طرق من هذا النقل، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية، وكان العفو والدية تخفيفا من الله إذ فيه انتفاع الولي بالدية، وحصول الأجر بالعفو استبقاء مهجة القاتل، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب لأنه المصلح لأحوال عبيده، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية، وعطف * (ورحمة) * على * (تخفيف) * لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك. وأي رحمة أعظم من ذلك؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله.
* (فمن اعتدى بعد ذالك) * أي: من تجاوز شرع الله بعد القود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم، أو بقتل غير القاتل، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة، وقيل: المعنى: من قتل بعد أخذ الدية، وقيل: بعد العفو، وقيل: من أخذ الدية بعد العفو عنها. والأظهر القول الأول لتقدم العفو،
(١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 ... » »»