تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٢١
شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معا، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول: شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه.
* (ولا تكفرون) *: وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضد الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي. وهذه النون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفا لتناسب الفواصل. قيل: المعنى واشكروا لي بالطاعة، ولا تكفرون بالمعصية. وقيل: معنى الشكر هنا: الاعتراف بحق المنعم، والثناء عليه، ولذلك قابله بقوله: * (ولا تكفرون) *. وهنا ثلاث جمل: جملة الأمر بالذكر، وجملة الأمر بالشكر، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولا بجملة الذكر، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر، لأنه ثناء على شيء خاص، وقد اندرج تحت الأول، فهو بمنزلة التوكيد، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي، لأنه لما أمر بالشكر، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله: * (وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به) *، فأغنى عن إعادته هنا..
* (تكفرون يأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلواة) *، قيل: سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا: سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف، وهو الإيمان مجعولا فعلا ماضيا في صلة الذين، دالا على الثبوت والالتباس به في تقدم زمانهم، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة، وهو أمر قلبي؛ والصلاة ثمرته، وهي من أشق التكاليف لتكررها. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرا، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا: بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال: هو كناية عن الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، وبعضهم قال: هو كناية عن الجهاد لقوله: بعد: * (ولا تقولوا لمن يقتل) *، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له. وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله: * (استعينوا بالصبر والصلواة) *.
* (إن الله مع الصابرين) *: أي بالمعونة والتأييد، كما قال: اهجهم، وروح القدس معك. وقال تعالى: * (لا تحزن إن الله معنا) *، ومن كان الله معه فهو الغالب، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر، وصار الصبر أصلا لجميع التكاليف الشاقة قال: * (إن الله مع الصابرين) *، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل. وأما قوله هناك: * (وإنها لكبيرة على الخاشعين) *، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر..
* (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) *، قيل: سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزلت. نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات، وأخبر تعالى أنهم أحياء، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجا تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله: * (ولكن لا تشعرون) *، لأن معناه: أن حياتهم لا شعور لكم بها، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة. وقيل: ذلك مجاز. واختلفوا فقيل: أموات بانقطاع الذكر، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر. وكانت العرب
(٦٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 616 617 618 619 620 621 622 623 624 625 626 ... » »»