تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٢٣
المختبر، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، وإنما معناه هنا: الإجابة، والضمير الذي للخطاب. قيل: هو للصحابة فقط، قاله عطاء. خاطبهم بذلك بعد الهجرة، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطمينا لقلوبهم، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع، كان قد استعد له، بخلاف الأشياء التي تفاجىء، فإنها أصعب على النفس، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة، وإخبارا بمغيب يقع وفق ما أخبر، وتمييزا لمن أسلم مريدا وجه الله ممن نافق، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية، وحملا لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه، ما ابتلوا به. وقيل: هؤلاء أهل مكة، خاطبهم بذلك إعلاما أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم) فيهم، وليبقوا يتوقعون المصيبة، فتضاعف عليهم المصيبات. وقيل: هو خطاب للأمة، ويكون آخر الزمان، قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة، يكون هذا الإخبار تحذيرا وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها، ويكون إخبارا بالمغيبات. وقيل: الخطاب لا يراد به معين، بل هو عام، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص، فكأنه قيل: ولنصيبن بكذا، فيكون في ذلك تحذير، وأنه للصحابة وغيرهم.
وهذه الآية لها تعلق بقوله: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) * الآية، وقبلها: * (واشكروا لي) *، والشكر يوجب زيادة النعم، والابتلاء بما ذكر ينافيه ظاهرا، وتوجيه أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ولذلك يوجب الشكر والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق، فأمر فيها بالصبر، وأنه أنعم عليه أولا فشكر، وابتلي ثانيا فصبر، لينال درجتي الشكر والصبر، فيكمل إيمانه. كما روي عنه عليه السلام: (الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر). بشيء: متعلق بقوله: * (ولنبلونكم) *، والباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل، إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروبا من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك: بأشياء، فلا يكون حذف فيما بعدها، فيكون من في موضع الصفة، بخلاف قراءة الجمهور: بشيء، فلا بد من تقدير حذف أي شء من الخوف، وشئ من الجوع، وشئ من نقص. والمعنى في هذه القراءة: ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا. والخوف: خوف العدو، قاله ابن عباس، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب. وقال الشافعي: هو خوف الله تعالى. والجوع: القحط، قاله ابن عباس، عبر بالمسبب عن السبب. وقيل: الجوع: الفقر، عبر بالمسبب عن السبب أيضا. وقال الشافعي: هو صيام شهر رمضان. ونقص من الأموال: بالخسران والهلاك. وقال الشافعي: بالصدقات. والأنفس: بالقتل والموت. وقال الشافعي: بالأمراض، وقيل: بالشيب. والثمرات: يعني الجوائح في الثمرات، وقلة النبات، وانقطاع البركات. وقال القفال: قد يكون نقصها بالجدوب، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: بظهور العدو عليهم. وقال الشافعي: والثمرات: موت الأولاد، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه. وفي حديث أبي موسى، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد: أقبضتم ثمرة فؤاده؟.
وقال بعض العلماء: المراد في هذه الآية: مؤن الجهاد وكلفه، فالخوف من العدو، والجوع به وبالأسفار إليه، ونقص الأموال بالنفقات فيه، والأنفس بالقتل، والثمرات بإصابة العدو لها، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد. انتهى كلامه. وعطف ونقص على قوله: بشيء، أي: ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص، ويحسن العطف تنكيرها، على أنه يحتمل أن يكون معطوفا على الخوف والجوع فيكون تقديره: وشئ من نقص. ومن الأموال: متعلق بنقص، لأنه مصدر نقص، وهو يتعدى إلى واحد، وقد حذف، أي: ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف، أي ونقص شيء من الأموال، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا: يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة، أي ونقص الأموال
(٦٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 618 619 620 621 622 623 624 625 626 627 628 ... » »»