التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى، الذين قيل فيهم: * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى) *، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به، ولوصف الأميين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني. والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله قتادة ومجاهد، والتوجه إلى الكعبة، أو أن الكعبة هي القبلة، أو أعم من ذلك، فيندرج فيه كل حق.
* (وهم يعلمون) *: جملة حالية، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالا مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالا مبينة.
* (الحق من ربك) *: قرأ الجمهور: برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبرا بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى: أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب: الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلا من الحق المكتوم، فيكون التقدير: يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولا ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء أي يسبقه شيء. وجوز ابن عطية أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره: الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده: * (فلا تكونن من الممترين) *.
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمة. ودل الممترين على وجودهم، ونهى أن يكون منهم، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك: لا تكن ظالما، أبلغ من قولك: لا تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك: لا تكن ظالما نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموما، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى: * (فلا تكونن من الجاهلين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله * فلا تكن فى مرية * منه) *. والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى: لا تظلم في كل أكوانك، أي في كل فرد من أكوانك، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم، فتصير كان فيه نصا على سائر الأكوان، بخلاف لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي، وكانت المشددة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى: فلا تكونن من الذين يشكون في الحق، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.
* (ولكل وجهة هو موليها) *، لما ذكر القبلة التي