كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو: * (ولاتم نعمتى عليكم) *، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولا منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتا لمصدر محذوف، ويجوز تقدم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك: أكرمني إكراما مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضا تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك: أكرمني لا كرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافا في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به، فليس مترتبا على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضا ليس مترتبا على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله: فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحا، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام، بإتمام النعمة السابقة، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعال بها، وجعل ذلك إتماما للنعمة في الحالين، لأن استقبال الكعبة ثانيا أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة. كما أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم) هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ لا نبي بعده، وهو خاتم النبيين. فشبه إتمام تلك النعمة، التي هي كمال نعمة استقبال القبل، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل. وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب، وشرف واستمالة لقلوبهم، إذ كان الرسول منهم، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بينهم الذي يحجونه قديما وحديثا ويعظمونه.
* (رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) *: فيه اعتناء بالعرب، إذ كان الإرسال فيهم، والرسول منهم، وإن كانت رسالته عامة. وكذلك جاء * (هو الذى بعث فى الاميين) *، ويشعر هذا الامتنان بأنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم)، ولذلك أفرده فقال: * (رسولا منهم) *، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم، وهي كونه منهم، وتاليا عليهم آيات الله، ومزكيا لهم، ومعلما لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون. وقدم كونه منهم، أي يعرفونه شخصا ونسبا ومولدا ومنشأ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله. وأتى ثانيا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه، الباقية إلى الأبد. وأضاف الآيات إليه تعالى، لأنها كلامه سبحانه وتعالى، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة، وتنبع العلوم. وأتى ثالثا بصفة التزكية، وهي التطهير من أنجاس الضلال، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق. وأتى رابعا بصفة تعليم الكتاب والحكمة، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم)، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى، وما اقتضته الحكمة الإلهية. وأتى بهذه الصفات فعلا مضارعا ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائما. وأما الصفة الأولى، وهي كونه منهم، فليست بمتجددة، بل هو وصف ثابت له. وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * بأشبع من هذا، فلينظر هناك.
وختم هذا بقوله: * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *، وهو ذكر عام بعد خاص، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة. وفسر بعضهم