والأنفس والثمرات. وأتى بالجملة الخبرية مقسما عليها، تأكيدا لوقوع الابتلاء، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه. وأن هذه المحن من الله تعالى، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين. وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي: فأخبر أولا بالابتلاء بشيء من الخوف، وهو توقع ما يرد من المكروه. ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط، أو الفقر، أو الحاجة إلى الأكل، إلا على تفسير الشافعي، وهو صوم رمضان. ولا ترقي بين نقص وشئ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء، بل الترقي في العطف بعدو نقص، فبدأ أولا بالأموال، ثم ترقي إلى الأنفس. وأما والثمرات، فجاء كالتخصيص بعد التعميم، لأنها تندرج تحت الأموال، فلا ترقي فيها.
* (وبشر الصابرين) *: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، أو لكل من تتأتى منه البشارة، أي على الجهاد بالنصر، أو على الطاعة بالجزاء، أو على المصائب بالثواب، أقوال: والأحسن عدم التقييد، أي كل من صبر صبرا محمودا شرعا، فهو مندرج في الصابرين. قالوا: والصبر من خواص الإنسان، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، وهو بدني. وهو: إما فعلي، كتعاطي الأعمال الشاقة، وإما احتمال، كالصبر على الضرب الشديد، ونفسي، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع. فإن كان من شهوة الفرج والبطن، سمي عفة. وإن كان من احتمال مكروه، اختلفت أسامية باختلاف المكروه. ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر، ويضاده الجزع. وإن كان في الغنى، سمي ضبط النفس، ويضاده البطر. وإن كان في حرب، سمي شجاعة، ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة، سمي سعة صدر، ويضاده الضجر. وإن كان في إخفاء كلام، سمي كتمانا، وضاده الإعلان. وإن كان في فضول الدنيا، سمي زهدا، ويضاده الحرص. وإن كان على يسير من المال، سمي قناعة، ويضاده الشره. وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبرا، فقال: * (والصابرين فى البأساء) *، أي المصيبة والضراء، أي الفقر وحين البأس، أي المحاربة. قال القفال: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع، وإن ظهر دمع عين، أو تغير لون، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابرا ثم صبر، لم يعد ذلك إلا سلوانا.
* (الذين إذا أصابتهم مصيبة) *: يجوز في الذين أن يكون منصوبا على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوبا على المدح، فيكون مقطوعا، أو مرفوعا على إضمارهم على وجهين: إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي: من الصابرون؟ قيل: هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. مصيبة: اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. وأصابتهم مصيبة: من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسما والأخرى فعلا، ومنه: * (أزفت الازفة * إذا وقعت الواقعة) *. والمصيبة: كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل، صغرت أو كبرت، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى: مصيبة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم)، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه. والمعنى في إذا هنا: على التكرار والعموم. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا، أتدل على التكرار، أم وضعت للمرة الواحدة؟ قولان للنحويين.
* (قالوا إنا لله) *: قالوا: جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا: أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا: إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله: معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرف فينا بما يريد من الأمور.
* (وإنا إليه راجعون) *: إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له. وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال: