تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٢٠
انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال، وبالجوارح، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها، خالية عن الأعمال المنهي عنها. وعلى هذا الوجه، سمى الله الصلاة ذكرا بقوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) *. انتهى. وقالوا: الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك. ولما كثر إطلاقه عليه، صار هو السابق إلى الفهم. فالذكر باللسان سري وجهري، والذكر بالقلب دائم ومتحلل، وبهما أيضا دائم ومتحلل. فباللسان ذكر عامة المؤمنين، وهو أدنى مراتب الذكر، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ذكرا). خرج ابن ماجة أن أعرابيا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)، وخرج أيضا قال: (يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه). وسئل أبو عثمان، فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة، فقال: احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم) ذكرا، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور: قال الشاعر:
* سواك ببالي لا يخطر * إذا ما نسيتك من أذكر * وبهما: هو ذكر خواص المؤمنين، وهذه ثلاث المقامات، أدومها أفضلها. انتهى.
وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة، وتركنا أشياء مما ذكره الناس، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران، لا يدل اللفظ على شيء منها، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد. وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني. والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفردا من غير إسناد، بل لا بد من إسناد، وأولاها الأذكار المروية في الآثار، والمشار إليها في القرآن. وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل. وتلك الأذكار تتضمن: الثناء على الله، والحمد له، والمدح لجلاله، والتماس الخير من عنده. فعبر عن ذلك بالذكر، وأمر العبد به، فكأنه قيل: عظموا الله، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك. وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكرا، فقال: فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة، لما كان نتيجة الذكر وناشئا عنه سماه ذكرا. * (واشكروا لي) * تقدم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك * (أن اشكر لى ولوالديك) *، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدى بحرف جر، وتارة تتعدى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي:
* هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم * فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل * وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا: إذا قلت: شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية: واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه: نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت: شكرتك، فالمعنى:
(٦٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 615 616 617 618 619 620 621 622 623 624 625 ... » »»