تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٢٢
تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد، وغيره ميتا. وقيل: أموات بالضلال، بل أحياء بالطاعة والهدى، كما قال: * (أو من كان ميتا فأحييناه) *. وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا، فقال قوم: معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون، فالمعنى: أنهم سيحيون بالبعث، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة: بقاء أرواحهم دون أجسادهم، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر، وبقوله: * (ولكن لا تشعرون) * معناه: لا تشعرون بكيفية حياتهم. ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة، أو أنهم على هدى ونور، لم يظهر لنفي الشعور معنى، إذ هو خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا بالبعث، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه: ولكن لا تشعرون، لأنهم قد شعروا به وبقوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره. فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء، كما قال تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى * وينشىء السحاب) *، وكما ترى النائم على هيئته، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به. ونقل السهيلي في كتاب (دلائل النبوة) من تأليفه، حكاية عن بعض الصحابة، أنه حفر في مكان، فانفتحت طاقة، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامة روضة خضراء، وذلك بأحد، وعلم أنه من الشهداء، لأنه رأى في صفحة وجهه جرحا. وإذا ثبت أن الشهداء أحياء، إما أرواحهم، وإما أجسادهم وأرواحهم، فاختلف في مستقرها. فقيل: قبورهم يرزقون فيها. وقيل: في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها، قاله أبو بشار السلمي. وقيل: في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى، قاله قتادة. وقيل: يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها، وليسوا فيها، قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء). وروي: في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا. وروي عنه صلى الله عليه وسلم): (أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة، وأنهم في قناديل من ذهب، وأنهم في قبة خضراء). وإذا صح ذلك، فهي أحوال لطوائف من الشهداء، أو في أوقات مختلفة. والجمهور: على أنهم في الجنة، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم) لأم حارثة: (إنهم في الفردوس). ومذهب أهل السنة: أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية بعد خروجها من البدن. فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين.
والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرزق، فضلهم الله بذلك، وقال تعالى في حق الكفار: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) *. وقال الحسن: الشهداء أحياء عند الله، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشيا، فيصل إليهم الوجع. وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم، وإن كانت في حجم الذرة. ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرها، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد، اتباعا للمفسرين، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) *، حيث ذكر العندية والرزق، وظاهر قوله: * (لمن يقتل فى سبيل الله) *، العموم. وقيل: نزلت في شهداء بدر، كانوا أربعة عشر، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء، فهم مغبوطون لا محزونون عليهم.
* (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات) *: تقدم أن الابتلاء: هو الاختبار، ليعلم ما يكون من حال
(٦٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 617 618 619 620 621 622 623 624 625 626 627 ... » »»