تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٢٦
الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته. وأكد بقوله: هم. وبالألف واللام، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل، ليدل على الثبوت، لأن الهداية ليست من الأفع الالمتجددة وقتا بعد وقت فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصف ثابت. وقيل: المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر. وقيل: إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن. وقيل: إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الحق والصواب، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان، ونظير هاتين الجملتين قوله * (أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون) *. والكلام في إعراب: هم المهتدون، كالكلام على: المفلحون، وقد تقدم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج صلى الله عليه وسلم) شطر المسجد، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة، حيث كان النسخ صعبا على النفوس، حيث ألفوا أمرا، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره، وخصوصا عند من لا يرى النسخ. فلذلك كرروا أنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس، لأن ذلك، إذا كان بأمر منه تعالى، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله، لأن أمر الله ثانيا، كأمره أولا. وهو قد أمر أولا باستقبال بيت المقدس، وأمر آخرا باستقبال الكعبة. فلا فرق بين الأمرين، ولا حجة لمن خالف. واستثنى من الناس من ظلم، لأنه لا تنقطع حججه، وإن كانت باطلة، ولا تشغيباته وتمويهاته، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به، ثم أمرهم تعالى بخشيته، ونهاهم عن خشية الناس، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه. وعطف على تلك العلة علة أخرى، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم، والرجوع إلى المألوف، ولتحصيل الهداية. وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم، إذ هذه النعمة هي الأصل، وهي منبع النعم والهداية، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل، وهي تلاوة الكتاب عليهم: * (أو لم * يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) *؟ فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس؟
* أخو العلم حي خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم * وقال آخر:
* محل العلم لا يأوي ترابا * ولا يبلى على الزمن القديم * ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم. ثم نهاهم عن كفرانها، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه. ثم نادى من اتصف بالإيمان، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة، ليقبلوا على ما يأمرهم به. فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة. ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات، وأخبر أنهم أحياء، فوجب تصديق ما أخبر به، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم. ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى. ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقادا وقولا صريحا أنهم عبيد الله ومماليكه، وإليه مآبهم ومرجعهم، يتصرف فيهم كما أراد. ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف، فعليه من الله الصلاة والرحمة، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت.
(٦٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 621 622 623 624 625 626 627 628 629 630 631 ... » »»