تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٤٤
كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كتب، وإنما المعنى: أمر بالكتابة، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) *. ونظير هذا التأكيد * (يطير بجناحيه * ويقولون * بأفواههم) *، وقوله:
نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله. وفي هذا التأكيد أيضا تقبيح لفعلهم، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم، واجترحوه بأيديهم. وقال ابن السراح: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم، ومن عند أنفسهم، من غير أن ينزل عليهم. انتهى كلامه. ولا يدل على ما ذكر، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها، التقدير: يكتبون الكتاب بأيديهم محرفا، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم: * (يقولون هاذا من عند الله) *، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه، فلذلك قدرنا هذه الحال.
* (ثم يقولون) *: أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم، ومعمول القول هذه الجملة التي هي: * (هاذا من عند الله ليشتروا) *، علة في القول، وهي لام كي، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق ب يقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له. * (به ثمنا قليلا) *، به: متعلق بقوله: ليشتروا، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: * (هاذا من عند الله) *، وهو المكتوب المحرف. وتقدم القول في الاشتراء في قوله: * (اشتروا الضلالة بالهدى) *. والثمن هنا: هو عرض الدنيا، أو الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصف بالقلة لكونه فانيا، أو حراما، أو حقيرا، أو لا يوازنه شيء، لا ثمن، ولا مثمن. وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله، وضموا إلى ذلك حب الدنيا. وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرف، وعلى إسناده إلى الله تعالى. وكلاهما منكر، والجمع بينهما أنكر. وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي.
* (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *: كتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط. فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك. وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد بما يكسبون الأعمال السيئة، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص، لأن ما يكسبون عام، والأولى أن يقيد بما ذكرناه.
* (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * سبب نزول هذه الآية: أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتبوا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك. روي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (اليهود من أهل النار) قالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال: (كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الآية. وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام، عدد أيام الدنيا، سبعة آلاف لكل ألف يوم، ثم ينقطع العذاب. وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما، عدد عبادتهم العجل، وقيل: أربعين يوما تحلة القسم. وقيل: أربعين ليلة، ثم ينادي: اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية، والضمير في: وقالوا، عائد على الذين يكتبون الكتاب. جمعوا، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم
(٤٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 439 440 441 442 443 444 445 446 447 448 449 ... » »»