أي من رأى الحجر مترديا من علو إلى أسفل، تخيل فيه الخشية، فاستعار الخشية، كناية عن الانقياد لأمر الله، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها. فمن يراها يظن أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى. وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات، وذلك ممتنع عندهم. وتأولوا ما ورد في القرآن والحديث، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة، هي التي تسلم وتتكلم، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش، تنادي: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني. والأرحام ليست بجسم، ولا لها إدراك، ويستحيل أن تسجد المعاني، أو تتكلم، وإنما قرن الله تعالى بها ملكا يقول ذلك القول. وتأولوا: هذا جبل يحبنا ونحبه، أي يحبه أهله ونحب أهله، كقوله تعالى: واسئل القرية. واختيار ابن عطية، رحمه الله تعالى، أن الله يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك، تقع به الخشية والحركة. واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جدا، وهو على حسب الترقي. فبدأ أولا بالذي تتفجر منه الأنهار، أي خلق ذا خروق متسعة، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا يسيرا، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا عظيما، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل، ثم رسخ هذا الانفعال التام بأن ذلك هو من خشية الله تعالى، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد، لأن من خشي أطاع وانقاد.
* (وما الله بغافل عما تعملون) *: هذا فيه وعيد، وذلك أنه لما قال: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك) *، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة، من مخالفة الله تعالى، ومعاندة رسله، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم، بل هو تعالى يحصيها عليهم، وإذا لم يفعل عنها كان مجازيا عليها. والغفلة إن أريد بها السهو، فالسهو لا يجوز على الله تعالى، وإن أريد بها الترك عن عمد، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به. وعلى كلا التقديرين، فنفى الله تعالى الغفلة عنه. وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه. وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل، قال: لأنه يوهم جواز الغفلة عليه، وليس الأمر كما ذهب إليه، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) *؟ وقوله: * (وهو يطعم ولا يطعم) *، فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له. وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أن تكون ما تميمية، فدخلت الباء في خبر المبتدأ، وسوغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول: زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه، بل القائلون قائلان، قائل: بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه، وتبعه الزمخشري. وقائل: بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح. وقال الفرزدق:
لعمرك ما معن بتارك حقه