تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٣٩
في أن يؤمنوا، فهو في موضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء، وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.
* (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) *، الفريق: قيل: الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله مجاهد والسدي. وقيل: جماعة من اليهود كانوا يسمعون الوحي، إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيحرفونه، قصد أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه، ويحصل التضاد في أحكامه. وقيل: كل من حرف حكما، أو غيره، كفعلهم في آية الرجم ونحوها. وقيل: هم السبعون الذين سمعوا مع موسى عليه السلام كلام الله، ثم بدلوا بعد ذلك، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى. قال ابن الجوزي: أنكر ذلك أهل العلم، منهم: الترمذي، صاحب النوادر، وقال: إنما خص موسى عليه السلام بالكلام وحده. وكلام الله الذي حرفوه، قيل: هو التوراة، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم، وهو قول الجمهور. وقيل: بالتأويل، مع بقاء لفظ التوراة، قاله ابن عباس. وقيل: هو كلام الله الذي سمعوه على الطور. وقيل: ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقرأ الأعمش: كلم الله، جمع كلمة، وقد يراد بالكلمة: الكلام، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقد يراد المفردات، فيحرفون المفردات، فتتغير المركبات، وإسنادها بتغير المفردات. * (ثم يحرفونه) *: التحريف الذي وقع، قيل: في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه، حتى لا تقوم عليهم به الحجة. وقيل: في صفته، وفي آية الرجم. * (من بعد ما عقلوه) * أي من بعد ما ضبطوه وفهموه، ولم تشتبه عليهم صحته. وما مصدرية، أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد عليها، وهو بعيد.
* (وهم يعلمون) *: ومتعلق العلم محذوف، أي أنهم قد حرفوه، أو ما في تحريفه من العقاب، أو أنه الحق، أو أنهم مبطلون كاذبون. والواو في قوله: * (وقد كان فريق) *، وفي قوله: * (وهم يعلمون) *، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله: * (* أفتطعمون) *؟ ويحتمل أن يكون: * (الناس أن يؤمنوا) *. فعلى الأول يكون المعنى: أفيكون منكم طمع في إيمان اليهود؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم، فيكون الحال قيدا في الطمع المستبعد، أي يستبعد الطمع في إيمان هؤلاء وصفتهم هذه. وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان، وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى. فعلى هذا يكون الحال قيدا في أيمانهم. وعلى كلا التقديرين، فكل منهما، أعني من: أفتطعمون، ومن يؤمنوا، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى. وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب. وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت: أتطمع أن يتبعك زيد؟ وهو متبع طريقة أبيه، فاستبعاد الطمع مقيد بهذه الحال، ومتعلق الطمع، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع، ولا يناسب الطمع، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع، مع انتفاء هذه الحال. وأما العامل في قوله: * (وهم يعلمون) *، فقوله: * (ثم يحرفونه) *، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه، عالمين في تحريفه من شديد العقاب، ومع ذلك فهم يقدمون على ذلك، ويجترئون عليه. والإنكار على العالم أشد من الإنكار على الجاهل، لأن عند العالم دواعي الطاعة، لما علم من ثوابها، وتواني المعصية لما علم من عقابها. وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: * (وهم يعلمون) *، قوله: * (عقلوه) *، والظاهر القول الأول، وهو قوله: * (يحرفونه) *.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا) *: قرأ ابن السميفع: لاقوا، قالوا: على التكثير. ولا يظهر التكثير، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرد. فمعنى لاقوا، ومعنى لقوا واحد، وتقدم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية. ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكاشفة عما أكنوه من النفاق. ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة على قوله: * (وقد كان فريق منهم) * الآية، أي كيف يطمع في إيمانهم، وقد كان من أسلافهم من يحرف كلام الله، وهؤلاء سالكو طريقتهم، وهم في أنفسهم منافقون، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار. فمن جمع بين هاتين الحالتين، من
(٤٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 434 435 436 437 438 439 440 441 442 443 444 ... » »»