تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٤٠
اقتدائهم بأسلافهم الضلال، ومنافقتهم للمؤمنين، لا يطمع في إيمانهم. والذين آمنوا هنا هم: أبو بكر وعمر وجماعة من المؤمنين، قاله جمهور المفسرين. وقال بعضهم: المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، والضمير في لقوا الجماعة من اليهود غير معينة باقين على دينهم، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم)، قالوا: ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان، فإنه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمن.
* (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * أي: وإذا انفرد بعضهم ببعض، أي الذين لم ينافقوا إلى من نافق. وإلى، قيل: بمعنى مع، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض، والأجود أن يضمن من خلا معنى فعل يعدي بإلى، أي انضوى إلى بعض، أو استكان، أو ما أشبهه، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف. * (قالوا) *: أي ذلك البعض الخالي ببعضهم. * (أتحدثونهم) *: أي قالوا عاتبين عليهم، أتحدثون المؤمنين؟ * (بما فتح الله عليكم) *: وما موصولة، والضمير العائد عليها محذوف تقديره: بما فتحه الله عليكم. وقد جوزا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول، والذي حدثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله أبو العالية وقتادة، أو ما عذب به أسلافهم، قاله السدي. وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لبني قريظة: (يا إخوة الخنازير والقرد). فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم. وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا: في التوراة كذا وكذا، فكره ذلك أحبارهم، ونهوا في الخلوة عنه. فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم؟ ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعلى قول السدي: يكون بمعنى الحاكم والقضاء، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاء من تعذيبهم؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى: الإنزال، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ وقال الكلبي: المعنى بما قضى الله عليكم، وهو راجع لمعنى الإنزال. وقيل: المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم)، وصفته، وشريعته، وما دعاكم إليه من الإيمان به، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته. وقيل: المعنى بما من الله عليكم من النصر على عدوكم، ومن تأويل كتابكم.
* (ليحاجوكم) *: هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار، إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله: * (أتحدثونهم) *، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنها للسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أن النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكي أكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لام: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر، لأن المحاجة ليست علة للفتح، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث، إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: إن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به، فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير: * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *. لم يلتقطوه لهذا الأمر، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوز، لأن الناشئ عن شيء، وإن لم يقصد، كالعلة. ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله: أتحدثونهم، وبين: بما فتح، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقرب وساطة، كأنه قال: أتحدثونهم فيحاجوكم. وعلى الثاني يكون أبعد، إذ يصير المعنى: فتح الله عليكم به، فحدثتموهم به، فحاجوكم. فالأولى جعله لأقرب وساطة، والضمير في * (به) * عائد إلى ما من قوله: * (بما فتح الله) *، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنها مصدرية، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير.
* (عند ربكم) * معمول لقوله: ليحاجوكم، والمعنى: ليحاجوكم به في الآخرة. فكنى بقوله: * (عند ربكم * عن * أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *. وقيل: معنى عند ربكم: في ربكم، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في.
(٤٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 435 436 437 438 439 440 441 442 443 444 445 ... » »»