تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٤١
وقيل: هو على حذف مضاف، أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم. وقيل معناه: إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا، وهو عند الله كذا، بمعنى واحد؟ وقيل: هو معمول لقوله: * (بما فتح الله عليكم عند ربكم) *، أي من عند ربكم ليحاجوكم، وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم)، وأخذ ميثاقهم بتصديقه. قال ابن أبي الفضل: وهذا القول هو الصحيح، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى. والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم ولا تأخير، إذا أمكن ذلك، وقد أمكن بجعل قوله: * (عند ربكم) * على بعض المعاني التي ذكرناها. وأما على ما ذهب إليه هذا الذاهب، فبعيد جدا، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله: أتحدثونهم، وعند ربكم متعلق بقوله: بما فتح الله عليكم، فتكون قد فصلت بين قوله: عند ربكم، وبين العامل فيه الذي هو: فتح الله عليكم، بقوله: ليحاجوكم، وهو أجنبي منهما، إذ هو متعلق بقوله: أتحدثونهم على الأظهر، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام، فكيف يجيء في كلام الله الذي هو أفصح الكلام؟.
* (أفلا تعقلون) *: ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال: أتحدثونهم بما يكون حجة لهم عليكم؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك؟ وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لا يؤمنون، وهم على هذه الصفات الذميمة، من اتباع أسلافهم المحرفين كلام الله، والتقليد لهم فيما حرفوه، وتظاهرهم بالنفاق، وغير ذلك مما نعى عليهم ارتكابه؟.
* (أو لا * يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) *: هذا توبيخ من الله لهم، أي إذا كان علم الله محيطا بجميع أفعالهم، وهم عالمون بذلك، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم، إذ هو ظاهر اللفظ. وقيل: الذي أسروه الكفر، والذي أعلنوه الإيمان. وقيل: العداوة والصداقة. وقيل: قولهم لشياطينهم إنا معكم، وقولهم للمؤمنين آمنا. وقيل: صفة النبي صلى الله عليه وسلم)، وتغيير صفته إلى صفة أخرى، حتى لا تقوم عليهم الحجة. وقرأ ابن محيصن: أو لا تعلمون بالتاء، قالوا: فيكون ذلك خطابا للمؤمنين، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية، ويحتمل أن يكون خطابا لهم، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة، إهمالا لهم، فيكون ذلك من باب الالتفات، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه. وقد تقدم لنا أن مثل * (أفلا تعقلون) *، * (أو لا * يعلمون) *، أن الفاء والواو وفيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. و * (أن الله يعلم) *: يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد، ويجعل الثاني محذوفا، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرونه ويعلنونه. وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك، أي بأن الله يعلم السر والعلانية، أي قد علموا ذلك، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق. وقيل: ذلك تقريع لهم وحث على التفكر، فيعلمون بالتفكر ذلك. وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة، وفيها ما يدل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لزمهم الاعتراف بالربوبية، ودل على أن المعصية، مع علمهم بها، أقبح.
وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يغضي عن المنافقين، مع أن الله أظهره على نفاقهم، وذلك رجاء أن يؤمنوا، فأغضى عنهم، حتى قبل الله منهم من قبل، وأهلك من أهلك. واختلف، هل هذا الحكم باق، أو نسخ؟ فقال قوم: نسخ، لأنه كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم)، تأليفا للقلوب. وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، فلا حاجة إلى التأليف. وقال قوم: هو باق إلى الآن، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم، والأول هو الأشهر. وفي قوله: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) *، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات، بل يعلم الكليات.
* (ومنهم أميون) *: ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه، قاله ابن
(٤٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 436 437 438 439 440 441 442 443 444 445 446 ... » »»