تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٥٥
تلوين الخطاب. وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين. وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل، وهو الظاهر، لأن ما قبله وما بعده يدل عليه، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة، وهم إلى الآن مستمرون عليها. وروي عن ابن عباس: أن زكاة أموالهم كانت قربانا تهبط إليهم نار فتحملها، فكان ذلك تقبله، وما لا تفعل النار ذلك به، كان غير متقبل. وقيل: الصلاة هي هذه المفروضة علينا، والخطاب لمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أبناء اليهود، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمرا بالإسلام. والثاني: على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان والزكاة هي هذه المفروضة، وقيل: الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده. ومعنى هذا القول أنه كنى عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاة اللتين هما أعظم أركان الإسلام.
* (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) *: ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم الميثاق. وقيل: هو خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم) من بني إسرائيل، أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره. والمعنى: ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق، والمعني بالقليل القليل في عدد الأشخاص. فقيل: هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: من آمن قديما من أسلافهم، وحديثا كعبد الله بن سلام وغيره. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم) إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى. انتهى كلامه، وهو احتمال بعيد من اللفظ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم، ونصب: قليلا، على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضا قوم، قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحل محل المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتل به من تسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضده، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤول بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك بابا في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، * (ولو كان * فيهما الهة إلا الله لفسدتا) *.
وقليل بها الأصوات إلا بغامها وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ: * (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) *، برفع غير، وجوز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرج على ذلك قول عمرو بن معدى كرب:
* وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان * قال: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ
(٤٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 450 451 452 453 454 455 456 457 458 459 460 ... » »»