تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٤٦
الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة، لا إلى انتهاء. وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهرا طويلا، إذ مآله إلى الخروج من النار. قال الكلبي: أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس: أحبطت حسناته. وقال مجاهد: غشيت قلبه. وقال مقاتل: أصر عليها. وقال الربيع: مات على الشرك. قال الحسن: بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة. ومن، كما تقدم، لها لفظ ومعنى، فحمل أولا على اللفظ، فقال: من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، وحمل ثانيا على المعنى، وهو قوله: * (فأولئك) *، إلى آخره. وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد، وهو الشرك. ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة، لأن السيئة مفردة، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة، فراعى المعنى وطابق به اللفظ. وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة، وأن الخطيئة وصف للسيئة. وفرق بعضهم بينهما فقال: السيئة الكفر، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس. وقيل: إن الخطيئة الشرك، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي. قال الزمخشري: وأحاطت به خطيئته تلك، واستولت عليه، كما يحيط العدو، ولم ينقص عنها بالتوبة. انتهى كلامه. وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة، ولم يتب منها، ومات، كان خالدا في النار.
وفي قوله: * (أصحاب النار هم فيها خالدون) *: إشارة إلى أن المراد: الكفار، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم): (أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون). وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين: أحدهما، كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أمرين: أحدهما: كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة، وهي الشرك، وإن أحاطت به خطيئته، وهي الكبائر، لا يكون من أصحاب النار، ولا ممن يخلد فيها. ويعني بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *: لما ذكر أهل النار، وما أعد لهم من الهلاك: أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان، وما أعد لهم في الخلود في الجنان. والمراد بالذين آمنوا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، ومؤمنوا الأمم قبله، قاله ابن عباس وغيره، وهو ظاهر اللفظ، وقال ابن زيد: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم) وأمته، وقل ما ذكر في القرآن آية في الوعيد، إلا وذكرت آية في الوعد. وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين في إيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف، هذا على علم منهم بقبيح ما ارتكبوه. وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين، فهم على طريقة آبائهم في الكفر، ثم قد انطووا من حيث السريرة على مداجاة المؤمنين، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، أنكروا عليهم ما يتكلمون به مع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم، ثم أنكر تعالى عليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله، والإخبار بما فيه، واتباع ما تضمنه من الأمر، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والإيمان بما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ولكنهم كفروا عنادا وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.
ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهل العلم، ولم ينتفعوا بعلمهم، ذكر أيضا مقلدتهم وعوامهم، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظا مسموعة، وأن طريقهم في أصول دياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرفين المبدلين. ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة، من حرف كلام الله وادعى أنه من عند الله، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقي، فباع باقيا بفان.
ثم كرر الوعيد على ما فعلوه، ثم أخبر عنهم بما
(٤٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 441 442 443 444 445 446 447 448 449 450 451 ... » »»