تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٢٨
فصدر منهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها، بما شاهدت، والتعنت والتكذيب، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل، وأخبر بمن قتله قالوا: كذب. والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل، قاله ابن عباس، وهم الذين قتلوه، وأنكروا قتله. وقيل: قلوب بني إسرائيل جميعا قست بمعاصيهم وما ارتكبوه، قاله أبو العالية وغيره. وكنى بالقسوة عن نبو القلب عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تجول فيها. وأتى بمن في قوله: * (من بعد ذالك) * إشعارا بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلا بد من تجوز في أحدهما. والتجوز في ثم أولى، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة، فينحرفون إثرها إلى المعصية عنادا وتكذيبا، والإشارة بذلك قيل: إلى إحياء القتيل، وقيل: إلى كلام القتيل، وقيل: إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، قاله الزجاج.
* (فهى كالحجارة) *: يريد في القسوة. وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة، ويعني أن قلوبهم صلبة، لا تخلخلها الخوارق، كما أن الحجر خلق صلبا. وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض، بل خلق ذلك فيها خلقا أوليا، كما أن صلابة الحجر كذلك. والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف وفاقا لسيبويه وجمهور النحويين، خلافا لمن ادعى أنها تكون اسما في الكلام، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير: فهي كائنة كالحجارة، خلافا لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس. وجمعت الحجارة ولم تفرد، فيقال كالحجر، فيكون أخضر، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع، لأنه قوبل الجمع بالجمع، لأن قلوبهم جمع، فناسب مقابلته بالجمع، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة. فلو قيل: كالحجر، لأفهم ذلك عدم التفاوت، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك.
* (أو أشد قسوة) *، أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو للابهام، أو للإباحة، أو للشك، أو للتخيير، أو للتنويع، أقوال: وذكر المفسرون مثلا لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير. وكأن قلوبهم على قسمين: قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشد قسوة من الحجارة، فأجمل ذلك في قوله: * (ثم قست قلوبكم) *، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة، وإلى أشد منها، إذ ما كان أشد، كان مشاركا في مطلق القسوة، ثم امتاز بالأشدية. وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلا منهما ينتصب عنه التمييز. تقول: زيد كعمرو حلما، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل، منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافا إليه مقامه. تقول: زيد أحسن وجها من عمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجها وأقمت ما كان مضافا مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجه مبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو، وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كان الأصل ذلك، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجه أصل هذا الرفع، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا هذا، لأن ذكر مجيء التمييز منقولا من المبتدأ غريب، وأفرد أشد، وإن كانت خبرا عن جمع، لأن استعمالها هنا هو بمن، لكنها حذفت، وهو مكان حسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبرا عن المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم، فالضمير الذي في أشد عائد على القلوب، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون التقدير: أو هي أشد قسوة، فيصير من عطف الجمل. والثاني: أن يكون، التقدير: أو مثل أشد، فحذف مثل وأقيم أشد مقامه، ويكون الضمير في أشد إذ ذاك غير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشد قسوة من الحجارة،
(٤٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 423 424 425 426 427 428 429 430 431 432 433 ... » »»