تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٥٠
في سعي دنيا طالما قد مدت والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: * (إنما مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) *، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السراج: في (المقصور والممدود) له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.
* (وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله) * الآية، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي: ثم ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم. وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. والميثاق: هو الذي أخذه تعالى عليهم، وهم في صلب آبائهم كالذر، قاله: مكي، وضعف بأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل، وميثاق الآية فيهم، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم، قاله ابن عطية. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، بأن يعبدوه، إلى آخر الآيات. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبي وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوها.
أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولا في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدرا، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلا في المعنى، أو مفعولا لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدرا حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيدا، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورد ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالا بالمبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالا مقارنة، وحالا مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جوابا لقسم محذوف دل عليه قوله: * (أخذنا ميثاق بنى إسرءيل) *، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولا على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره بحفرها، ومن نظمها قوله:
(٤٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 445 446 447 448 449 450 451 452 453 454 455 ... » »»