تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤١٠
وكان هذا في زمن داود، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وكانوا في قرية يقال لها: أيلة، وقيل: مدين. وروى مسلم، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ فقال: (الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك). واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا، وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم. * (فجعلناها) *: الضمير عائد على القرية أو على الأمة، أو على الحالة، أو على المسخة، أو على الحيتان، أو على العقوبة. والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من: كونوا، أي فجعلنا كينونتهم قردة خاسئين. * (نكالا) *: أي عبرة، وهو مفعول ثان لجعل.
* (لما بين يديها وما خلفها) *: أي من القرى، والضمير للقرية، قاله عكرمة عن ابن عباس، أو لمن بعدهم من الأمم. وما خلفها: أي الذين كانوا معهم باقين، رواه الضحاك عن ابن عباس. أو ما بين يديها: أي ما دونها، وما خلفها يعني: لمن يأتي بعدهم من الأمم. والضمير للأمة، قاله السدي. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها للحيتان التي أاصبوا، قاله قتادة. أو لما بين يديها: ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها، قاله مجاهد. أو لما بين يديها ممن شاهدها، وما خلفها ممن لم يشاهدها، قاله قطرب. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب. أو لما بين يديها: من حضرها من الناجين، وما خلفها ممن يجيء بعدها. أو لما بين يديها من عقوبة الآخرة، وما خلفها في دنياهم، فيذكرون بها إلى قيام الساعة. أو لما بين يديها: لما حولها من القرى، وما خلفها: وما يحدث بعدها من القرى التي لم تكن، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين، فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. أو في الآية تقديم وتأخير، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب، نكالا وجزاء، لا لما بين يديها، أي لما تقدم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت. فهذه أحد عشر قولا. قال بعضهم: والأقرب للصواب قول من قال: ما بين يديها: من يأتي من الأمم بعدها. وما خلفها: من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة، ومن قال الضمير عائد على القرية، فالمراد أهلها.
* (وموعظة للمتقين) *: خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير، قال تعالى: * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *، * (إنما أنت منذر من يخشاها) *. وقيل: أراد نكالا لبني إسرائيل، وموعظة للمتقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم). قيل: المتقون أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله السدي عن أشياخه. وقيل: اللفظ عام في كل متق من كل أمة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين نهوا ونجوا.
وقد تضمن تهذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمني اليهود والنصارى والصابئين، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم، وأن ذلك عند من يراهم، وأن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة، فلا خوف مما يستقبل، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة. وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمن أطاع. وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب: إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل، والأخرى تتضمن ما عوقبوا به من تتق الجبل فوقهم، وأخذ الميثاق، ثم توليهم بعد ذلك. فأعلمت هذه الآية بحسنى عاقبة من آمن، حتى من هذا الجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين، ترغيبا في الإيمان، وتيسيرا للدخول في أشرف الأديان، وتبيينا أن الإسلام يجب ما قبله، وأن طاعة الله تجلب إحسانه وفضله.
وتضمن قوله * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم، وأنه كان يجب الوفاء به، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجوا، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق، وأنه لولا أن تذاركهم بفضله ورحمته لخسروا. ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين، ومآل اعتداء المعتدين، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية، فبينا هو يفرح بجعله من ذوي
(٤١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 405 406 407 408 409 410 411 412 413 414 415 ... » »»