تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٩٠
فيحتمل أن يكون ذلك متكررا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة، والواحدة هي المتحققة.
* (فانفجرت) *: الفاء للعطف على جملة محذوفة، التقدير: فضرب فأنفجرت، كقوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * أي فضرب فانفلق. ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتبا على ضربه، إذ لو كان يتفجر دون ضرب، لما كان للأمر فائدة، ولكان تركه عصيانا، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود، قال تعالى: * (فأرسلون * يوسف أيها الصديق) *، التقدير: فأرسلوه فقال: فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جاز حذفهما معا، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف، بل هي جواب شرط محذوف، قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: * (فتاب عليكم) *، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ، اه كلامه.
وقد تقدم لنا الرد على الزمخشري في هذا التقدير في قوله: * (فتاب عليكم) *، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضا إضمار قد إذ يقدر، فقد تاب عليكم، وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضيا لفظا ومعنى، نحو قوله: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) *، وإذا كان ماضيا لفظا ومعنى، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدر يكون مترتبا على أن يضرب، وإذا كان مترتبا على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلا، وإذا كان مستقبلا امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضيا نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إلي فقد أحسنت إليك، ويحتاج إلى تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني فغفر الله لك. وأيضا فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: * (قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا) *، وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ يصير مستقبلا لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلا عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه، وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ وجاء هنا: انفجرت وفي الأعراف: * (* انبجست) *، فقيل: هما سواء، انفجر وانبجس وانشق مترادفات. وقيل: بينهما فرق، وهو أن الانبجاس هو أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته. وقيل: الانبجاس خروجه من الصلب، والانفجار خروجه من اللين. وقيل: الانبجاس هو الرشح، والانفجار هو السيلان، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد، لأن الآيتين قصة واحدة.
* (الكتاب منه) * متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء. الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان، كما قال تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار) *، ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب، وهو
(٣٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 385 386 387 388 389 390 391 392 393 394 395 ... » »»