بالنعم، وذلك لأنه أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم، وذلك هو التوبة. وإذا كان قد عدد عليهم النعم الدنيوية، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى. ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه، قدم ذكر ذلك، وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل. واللام في قوله: لقومه، للتبليغ، وإقبال موسى عليه بالنداء، ونداؤه بلفظ يا قوم، مشعر بالتحنن عليهم، وأنه منهم، وهم منه، ولذلك أضافهم إلى نفسه، كما يقول الرجل: يا أخي، ويا صديقي، فيكون ذلك سببا لقبول ما يلقى إليه، بخلاف أن لو ناداه باسمه، أو بالوصف القبيح الصادر منه. وفي ذلك أيضا هزلهم لقبولهم الأمر بالتوبة، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره * (إن الشرك لظلم عظيم) *. ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه، فإذا ظلمها، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره. ويا قوم: منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها، فتقول: يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفا، فتقول: يا غلاما. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها، فتقول: يا غلام، وأجاز ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا غلام، تريد: يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل * (رب احكم بالحق) *، * (قال رب السجن أحب إلى) *، هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلا أو اسما، إن كان فعلا فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي، فلا يجيز في هذا يا ضارب، وظاهر الخطاب اختصاصه بمتخذي العجل. وقيل: يجوز أن يراد به: من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم. والباء في * (باتخاذكم العجل) * سببية، واحتمال الوجهين السابقين في قوله: * (ثم اتخذتم العجل) * جاء هنا، أي بعملكم العجل وعبادته، أو * (باتخاذكم العجل * إلاها) *. قال السلمي: عجل كل واحد نفسه، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برئ من ظلمه.
* (فتوبوا إلى بارئكم) * الفاء في فتوبوا معها التسبيب، لأن الظلم سبب للتوبة، ولما كان السامري قد عمل لهم من حليهم عجلا، قيل لهم: توبوا إلى بارئكم، أي منشئكم وموجدكم من العدم، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة. وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذواب من العدم، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة، لا الذي صنعه، مصنوع مثله، فلذلك، والله أعلم، كان ذكر الباري هنا. وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي عمرو: الاختلاس، روي ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر، وقال الشاعر:
* فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل *