أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٨١
أملك غيرها! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الشق الآخر فأعرض عنه، إلى أن أعاد القول، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها فلو أصابته لعقرته، ثم قال: " يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى "، وأن رجلا دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل بحال بذاذة، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح قوم ثيابا و دراهم، فأعطاه ثوبين، ثم حثهم على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم. ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس ثم الصدقة بالفضل. قيل له: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، ألا ترى أنه قال: " يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس "؟ فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة بل كانوا كما قال الله تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) [البقرة: 177]، فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك، والإمساك ممن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
وقد روى محارب بن دثار عن ابن عمر قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا! فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها تسعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول، فنزلت: (ومن يوق شح نفسه) الآية. وروى الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن قد خفت أن تصيبني هذه الآية: (ومن يوق شح نفسه)، فوالله ما أقدر على أن أعطي شيئا أطيق منعه! فقال عبد الله: هذا البخل وبئس الشئ البخل، ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حق.
وروي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه) قال: " ادخار الحرام ومنع الزكاة ". آخر سورة الحشر.
(٥٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 576 577 578 579 580 581 582 583 584 585 586 ... » »»