أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٨٣
معلوم الله أن أهل بدر وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة.
وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه، لأن الله نهى المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله، وكذلك قال أصحابنا إنه لو قال لرجل: " لأقتلن ولدك أو لتكفرن " إنه لا يسعه إظهار الكفر ومن. الناس من يقول فيمن له على رجل مال فقال:
" لا أقر لك حتى تحط عني بعضه " فحط عنه بعضه أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب ماله بمنزلة الإكراه على الحط، وهو فيما أظن مذهب ابن أبي ليلى. وما ذكرناه يدل على صحة قولنا، ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية أن الله فرض الهجرة على المؤمنين ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم، فقال:
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم) [التوبة: 24] الآية، وقال: (قالوا كنا مستضعفين في الأرض قال ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) [النساء: 97].
وقوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) الآية، وقوله:
(والذين معه) قيل فيه: الأنبياء، وقيل الذين آمنوا معه، فأمر الله الناس بالتأسي بهم في إظهار معاداة الكفار وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله: (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به. وقوله: (إلا قول إبراهيم لأبيه) يعني في أن لا يتأسوا به في الدعاء للأب الكافر، وإنما فعل إبراهيم ذلك لأنه أظهر له الإيمان ووعده إظهاره، فأخبر الله تعالى أنه منافق، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، فأمر الله تعالى بالتأسي بإبراهيم في كل أموره إلا في الاستغفار للأب الكافر.
وقوله تعالى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)، قال قتادة: يعني بإظهارهم علينا فيروا أنهم على حق. وقال ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.
باب صلة الرحم المشرك قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية. روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أم لها مشركة جاءتني أأصلها؟ قال: " نعم صليها ". قال أبو بكر: وقوله: (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) عموم في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة، إذ ليس هم من أهل قتالنا. وفيه النهي عن الصدقة على أهل الحرب لقوله: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين). وقد
(٥٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 578 579 580 581 582 583 584 585 586 587 588 ... » »»