وقال آخرون: " إنما أقرهم على أرضهم على أنهم وأرضهم فيء للمسلمين وأنهم غير ملاك لها ". وقال آخرون: " أقرهم على أنهم أحرار والأرضون موقوفة على مصالح المسلمين ".
قال أبو بكر: ولم يختلفوا أن من أسلم من أهل السواد كان حرا وأنه ليس لأحد أن يسترقه، وقد روي عن علي رضي الله عنه أن دهقانا أسلم على عهده فقال له: " إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك وأخذناها من أرضك، وإن تحولت عنها فنحن أحق بها "، وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه في دهقانة نهر الملك حين أسلمت، فلو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بالإسلام.
فإن قيل: فقد قالا إن تحولت عنها فنحن أحق بها. قيل له: إنما أراد بذلك أنك إن عجزت عن عمارتها عمرناها حتى نحن وزرعناها، لئلا تبطل الحقوق التي قد وجبت للمسلمين في رقابها وهو الخراج، وكذلك يفعل الإمام عندنا بأراضي العاجزين عن عمارتها. ولما ثبت بما وصفنا أن من أسلم من أهل السواد فهو حر، ثبت أن أراضيهم على إملاكهم كما كانت رقابهم مبقاة على أصل الحرية، ومن حيث جاز للإمام عند مخالفينا أن يقطع حق الغانمين عن رقابها ويجعلها موقوفة على المسلمين بصرف خراجها إليهم جاز إقرارها على أملاك أهلها ويصرف خراجها إلى المسلمين، إذ لا حق للمسلمين في نفي ملك ملاكها عنها بعد أن لا يحصل للمسلمين ملكها، وإنما حقهم في الحالين في خراجها لا في رقابها بأن يتملكوها.
وذكر يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح قال: " سمعنا أن الغنيمة ما غلب عليه المسلمون حتى يأخذوه عنوة بالقتال وأن الفئ ما صولحوا عليه "، قال الحسن: " فأما سوادنا هذا فإنا سمعنا أنه كان في أيدي النبط، فظهر عليهم أهل فارس، فكانوا يؤدون إليهم الخراج، فلما ظهر المسلمون على أهل فارس تركوا السواد ومن لم يقاتلهم من الدهاقين على حالهم ووضعوا الجزية على رؤوس الرجال ومسحوا ما كان في أيديهم من الأرضين ووضعوا عليهم الخراج، وقبضوا على كل أرض ليست في يد أحد فكانت صوافي للإمام ". قال أبو بكر: كأنه ذهب إلى أن النبط لما كانوا أحرارا في مملكة أهل فارس فكانت أملاكهم ثابتة في أراضيهم، ثم ظهر المسلمون على أهل فارس وهم الذين قاتلوا المسلمين ولم يقاتلهم النبط كانت أراضيهم ورقابهم على ما كانت عليه في أيام الفرس لأنهم لم يقاتلوا المسلمين، فكانت أرضوهم ورقابهم في معنى ما صولح عليه وأنهم إنما كانوا يملكون أراضيهم ورقابهم لو قاتلوهم. وهذا وجه كان يحتمله الحال لولا أن محاجة عمر لأصحابه الذين سألوه قسمة السواد كانت من غير هذا الوجه، وإنما احتج بدلالة الكتاب دون ما ذكره الحسن.