أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٧٦
بقوله: (والذين جاؤوا من بعدهم). فلما استقر عنده حكم دلالة الآية وموافقة كل الصحابة على إقرار أهلها عليها ووضع الخراج بعث عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة ووضعا الجزية على الرقاب وجعلاهم لأن ثلاث طبقات: اثني عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين، ثم لم يتعقب فعله هذا أحد ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ فصار ذلك اتفاقا.
واختلف أهل العلم في أحكام الأرضين المفتتحة عنوة، فقال أصحابنا والثوري:
" إذا افتتحها الإمام عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها وأهلها وأموالهم بين الغانمين بعد اخراج الخمس، وإن شاء أقر أهلها عليها وجعل عليها وعليهم الخراج ويكون ملكا لهم ويجوز بيعهم وشراؤهم لها ". وقال مالك: " ما باع أهل الصلح من أرضهم فهو جائز وما افتتح عنوة فإنه لا يشترى منهم أحد، لأن أهل الصلح من أسلم منهم كان أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم أحرز له إسلامه نفسه وأرضه للمسلمين، لأن بلادهم قد صارت فيئا للمسلمين ". وقال الشافعي: " ما كان عنوة فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين، فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعلها وقفا عليهم، ومن لم يطب نفسا فهو أحق بماله ".
قال أبو بكر: لا تخلو الأرض المفتتحة عنوة من أن تكون للغانمين لا يجوز للإمام صرفها عنهم بحال إلا بطيبة من أنفسهم، أو أن يكون الإمام مخيرا بين إقرار أهلها على املاكهم فيها ووضع الخراج عليها وعلى رقاب أهلها على ما فعله عمر رضي الله عنه في أرض السواد، فلما اتفق الجميع من الصحابة على تصويب عمر فيما فعله في أرض السواد بعد خلاف من بعضهم عليه على اسقاط حق الغانمين عن رقابها دل ذلك على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين ولا رقاب أهلها إلا بأن يختار الإمام ذلك لهم، لأن ذلك لو كان ملكا لهم لما عدل عنهم بها إلى غيرهم ولنازعوه في احتجاجه بالآية في قوله: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) وقوله: (والذين جاؤوا من بعدهم)، فلما سلم له الجميع رأيه عند احتجاجه بالآية دل على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم. وأيضا لا يختلفون أن للإمام أن يقتل الأسرى من المشركين ولا يستبقيهم، ولو كان ملك الغانمين قد ثبت فيهم لما كان له إتلافه عليهم كما لا يتلف عليهم سائر أموالهم، فلما كان له أن يقتل الأسرى وله أن يستبقيهم فيقسمهم بينهم ثبت أن الملك لا يحصل للغانمين بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم. ويدل على ذلك أيضا ما روى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا
(٥٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 571 572 573 574 575 576 577 578 579 580 581 ... » »»