أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٣٨
الغسل فيها، والثاني: قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء)، ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا فيه ماء وإن خالطه غيره، وإنما أباح الله تعالى التيمم عند عدم كل جزء من ماء، لأن قوله: " ماء " اسم منكور يتناول كل جزء منه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". وظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن خالطه غيره لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيه، وأباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما. وأيضا لا خلاف في جواز الوضوء بماء المد والسيل مع تغير لونه بمخالطة الطين له وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات، ومن أجل مخالطة ذلك له يرى متغيرا إلى السواد تارة وإلى الحمرة والصفرة أخرى، فصار ذلك أصلا في جميع ما خالطه الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء.
فإن قيل: إذا كان الماء المنفرد عن غيره لو استعمله للطهارة ولم يكفه ثم اختلط به غيره فكفاه بالذي خالطه نحو ماء الورد والزعفران فقد حصل بعض وضوئه بما لا تجوز الطهارة به مما لو أفرده لم يطهر، فلا فرق بين اختلاطه بالماء وبين إفراده بالغسل. قيل له: هذا غلط من وجوه، أحدها أن ما خالطه من هذه الأشياء الطاهرة التي يجوز استعماله لغير الطهارة إذا كان قليلا سقط حكمه وكان الحكم لما غلب، ألا ترى أن اللبن الذي خالطه ماء يسير لا يزول عنه اسم اللبن وأن من شرب من حب قد وقعت فيه قطرة من خمر لا يقال له شارب خمر ولم يجب عليه الحد لأن ذلك الجزء قد صار مستهلكا فيه فسقط حكمه؟ كذلك الماء إذا كان هو الغالب والجزء الذي خالطه إذا كان يسيرا سقط حكمه. ومن جهة أخرى أنه إن كانت العلة ما ذكرت فينبغي أن يجوز إذا كان الماء الذي استعمله لو انفرد عما خالطه كان كافيا لطهارته، إذ لا فرق بين انفراد الماء في الاستعمال وبين اختلاطه بما لا يوجب تنجيسه، فإذا كان لو استعمل الماء منفردا عما خالطه من اللبن وماء الورود ونحوه وكان طهورا، وجب أن يكون ذلك حكمه إذا خالطه غيره، لأن مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون مستعملا للماء المفروض به الطهارة، فهذا الذي ذكرته يدل على بطلان قولك وهدم أصلك. وأيضا فينبغي أن تجيزه إذ أكثر غسل أعضائه بذلك الماء، لأنه قد استعمل من الماء في أعضاء الوضوء ما لو انفرد بنفسه كان كافيا.
فإن قيل: قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) فجعل الماء المنزل من السماء طهورا، فإذا خالطه غيره فليس هو المنزل من السماء بعينه فلا يكون طهورا. قيل له: مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون الماء هو المنزل من السماء ألا ترى أن اختلاف الطين بماء السيل لم يخرجه من أن يكون الماء الذي فيه هو المنزل بعينه وإن لم
(٤٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 433 434 435 436 437 438 439 440 441 442 443 ... » »»