أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٤٣
معنى. وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة ولوغ الكلب بقوله: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا "، وهو لا يغيره.
فإن قيل: قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) [المائدة: 6] إلى قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) [المائدة: 6] وقوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) [النساء: 43] يدل من وجهين على جواز استعماله وإن كانت فيه نجاسة، أحدهما:
عموم قوله تعالى: (حتى تغتسلوا) [النساء: 4] أن ذلك يقتضي جوازه بماء حلته النجاسة وبما لم تحله. والوجه الآخر: قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) [المائدة: 6]، ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا ماء إذا كانت فيه نجاسة يسيرة لم تغيره، وهذا يعارض ما استدللتم به من عموم الآي والأخبار في حظر استعماله ماء خالطته نجاسة.
قيل له: لو تعارض العمومان لكان ما ذكرنا أولى من تضمنه من الحضر، والإباحة والحضر متى اجتمعا كان الحكم للحضر. وعلى أن ما ذكرنا من حضر استعمال النجاسة قاض على ما ذكرت من العموم، فوجب أن يكون الغسل مأمورا بماء لا نجاسة فيه، ألا ترى أنه إذا غيرته كان محظورا وعموم إيجاب الحضر مستعمل فيه دون عموم الأمر بالغسل؟ وكما قضى حضره لاستعمال النجاسات على قوله: (لأنه خالصا سائغا للشاربين) [النحل: 66]، فإن كان ما حله منها يسيرا كذلك واجب أن يقضى على قوله تعالى: (فاغسلوا) [المائدة: 6] وقوله: (فلم تجدوا ماء) [المائدة: 6].
واحتج من أباح ذلك بقوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)، وقوله:
(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) [الأنفال: 11]، وقوله صلى الله عليه وسلم: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته ". وصفه إياه بالتطهير يقتضي تطهير ما لاقاه. فيقال له: معنى قوله:
" طهورا " يعتوره معنيان، أحدهما: رفع الحدث وإباحة الصلاة به، والآخر: إزالة الأنجاس. فأما نجاسة موجودة فيه لم تزلها عن نفسه فكيف يكون مطهرا لها! وعلى هذا القول ينبغي أن يكون معنى قوله: " طهورا " أنه يجعل النجاسة غير نجاسة، وهذا محال لأن ما حله من أجزاء الدم والخمر وسائر الخبائث لا يخرج من أن يكون أنجاسا، كما أنها إذا ظهرت فيه لم يخرج من أن يكون أعيانها نجسة ولم يكن لمجاورة الماء إياها حكم في تطهيرها.
فإن قيل: إذا كان الماء غالبا فلم يظهر فيه فالحكم للماء، كما لو وقعت فيه قطرة من لبن أو غيره من المائعات لم يزل عنه حكم الماء لوجود الغلبة، ولأن تلك الأجزاء مغمورة مستهلكة، فحكم النجاسة إذا حلت الماء حكم سائر المائعات إذا خالطته. قيل له: هذا خطأ، لأن المائعات كلها لا يختلف حكمها فيما تخالطها من الأشياء الطاهرة
(٤٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 438 439 440 441 442 443 444 445 446 447 448 ... » »»