يكن وقت نزوله من السماء مخالطا للطين؟ وكذلك ماء البحر لم ينزل من السماء على هذه الهيئة والوضوء به جائز، لأن الغالب عليه هو الماء المنزل من السماء، فهو إذا مع اختلاط غيره به متطهر بالماء الذي أنزله الله من السماء وسماه طهورا.
فإن قيل: فيجب على هذا جواز الوضوء بالماء الذي خالطته نجاسة يسيرة، لأنه لم يخرج بمخالطة النجاسة إياه من أن يكون هذا الماء هو المنزل من السماء. قيل له: الماء المخالط للنجاسة هو باق بحاله لم يصر نجس العين، فلو لم يكن هناك إلا مخالطة غيره له لما منعنا الوضوء به، ولكنا منعنا الطهارة به مع كونه ماء منزلا من السماء من قبل أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة، واستعمال النجاسة محظور، فإنما منعنا استعمال النجاسة وليس بمحظور علينا استعمال الأشياء الطاهرة وإن خالطت الماء، فإذا حصل معه استعمال الماء للطهارة جاز، كمن توضأ بماء القراح ثم مسح وجهه بماء الورد أو بماء الزعفران فلا يبطل ذلك طهارته. وقد أجاز الشافعي الوضوء بما ألقي فيه كافور أو عنبر وهو يوجد منه ريحه وبما خالطه ورد يسير، وإن وقع مثله من النجاسة في أقل من قلتين لم يجز استعماله، فليس قياس النجاسة قياس الأشياء الطاهرة إذا خالطت الماء.
فإن قيل: يلزمك أن تجيز الوضوء بالماء الذي يخالطه ما يغلب عليه شيء من الأشياء الطاهرة إذا كان الماء لو انفرد كفاء لوضوئه، لأنه لو انفرد جاز، ولأنه هو المنزل من السماء في حال المخالطة وإن غلب عليه غيره حتى سلبه إطلاق اسم الماء. قيل له:
لا يجب ذلك، من قبل أن غلبة غيره عليه ينقله إلى حكمه ويسقط حكم القليل معه، بدلالة أن قطرة من خمر لو وقعت في حب ماء فشرب منه انسان لم يقل إنه شارب خمر ولا يجب عليه الحد، ولو أن خمرا صب فيها ماء فمزجت به فكان الخمر هو الغالب لإطلاق الناس عليه أنه شارب خمر وكان حكمه في وجوب الحد عليه حكم شاربها صرفا غير ممزوجة، وأما ماء الورد وماء الزعفران وعصارة الريحان والشجر فلم يمنع الوضوء به من أجل مخالطة غيره ولكن لأنه ليس بالماء المفروض به الطهارة ولا يتناوله الاسم إلا بتقييد، كما سمى الله تعالى المني ماء بقوله: (ألم نخلقكم من ماء مهين) [المرسلات:
20]، وقال: (والله خلق كل دابة من ماء) [النور: 45]، وليس هو من الماء المفروض به الطهارة في شيء. وأما مذهب الحسن بن صالح في إجازته الوضوء بالخل ونحوه، فإنه يلزمه إجازته بالمرق وبعصير أهل العنب لو خالطه شيء يسير من ماء، ولو جاز ذلك لجاز الوضوء بسائر المائعات من الأدهان وغيرها، وهذا خلاف الاجماع، ولو جاز ذلك لجاز التيمم بالدقيق والأشنان قياسا على التراب.