وجود ماء غيره كانت الحال الأخرى مثله لاتفاق الجميع على امتناع الفصل بينهما.
ووجه آخر يوجب أن يكون لزوم اجتناب النجاسة أولى من وجوب استعمال الماء الذي هي فيه، لعموم قوله: (فاغسلوا) [المائدة: 6] إذا لم يجد ماء غيره، وهو أن تحريم استعمال النجاسة متعلق بعينها، ألا ترى أنه ما من نجاسة إلا وعلينا اجتنابها وترك استعمالها إذا كانت منفردة، والماء الذي لا نجد غيره لم يتعين فيه لزوم الاستعمال؟ ألا ترى أنه لو أعطاه انسان ماء غيره أو غصبه فتوضأ به كانت طهارته صحيحة؟ فلما لم يتعين فرض طهارته بذلك وتعين عليه حظر استعمال النجاسة صار للزوم اجتناب النجاسة مزية على وجوب استعمال الماء الذي لا يجد غيره إذا كانت فيه النجاسة، فوجب أن يكون العموم الموجب لاجتنابها عند أولى. وأيضا لا نعلم خلافا بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسات، كاللبن والأدهان والخل ونحوه، وأن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه أكل ذلك وشربه، والدلالة من هذا الأصل على ما ذكرناه من وجهين أحدهما لزوم اجتناب النجاسات بالعموم الذي قدمنا في حالي المخالطة والانفراد، والآخر: أن حكم الحضر وهو النجاسات كان أغلب من حكم الإباحة وهو الذي خالطه من الأشياء الطاهرة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذي خالطه من ذلك ماء أو غيره، إذ كان عموم الآي والسنن شاملة له، وإذ كان المعنى وجود النجاسة فيه حظر استعماله. ويدل على صحة قولنا من جهة السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة " وفي لفظ آخر: " ولا يغتسل فيه من جنابة ". ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير طعمه ولا لونه ولا رائحته، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم منه فإن قيل: إنما منع البول القليل لأنه لو أبيح لكل أحد لكثر حتى يتغير طعمه أو لونه أو رائحته فيفسد. قيل له: ظاهر نهيه يقتضي أن يكون القليل منهيا عنه لنفسه لا لغيره، وفي حمله على أنه ليس بمنهي عنه لنفسه وأنه إنما منع لئلا يفسد لغيره إثبات معنى غير مذكور في اللفظ ولا دلالة عليه وإسقاط حكم المذكور في نفسه، وعلى أنه متى حمل على ذلك زالت فائدته وسقط حكمه لعلمنا بأن ما غير من النجاسات طعم الماء أو لونه أو رائحته محظور استعماله بغير هذا الخبر من النصوص والإجماع، فيؤدي ذلك إلى اسقاط حكمه رأسا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة " فمنع البائل الاغتسال فيه بعد البول قبل أن يصير إلى حال التغير. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده " فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الإستنجاء، ومعلوم أن مثلها إذا حلت الماء لم يغيره، ولولا أنها تفسده لما كان للأمر بالاحتياط منها